الخلفية
التاريخية
قبل
الشروع في تناول مسرحية "حرب البسوس" من الضروري الوقوف على يوم خزاز
وحرب البسوس حتى نتمكن من قراءة المسرحية بصورة أفضل.
يوم
خزاز
ليوم خزاز أثر مهم في تحديد الإشكالية التي بنيت
عليها حرب البسوس، فقد أدى هذا اليوم إلى التمكين لكليب الذي سيأتي ذكره لاحقا. ويوم
خزاز من أيام العرب المعروفة، حيث أسر أحد ملوك اليمن أشخاصا من مضر وربيعة وقضاعة،
فوفد عليه وجوه من بني معد، فاحتبس الملك عنده بعض الوفد رهينة، وقال للباقين:
ائتوني برؤساء قومكم لآخذ عليهم المواثيق بالطاعة لي، وإلا قتلت أصحابكم.
رجعوا
إلى قومهم، فجمع كليب وائل ربيعة، ثم اجتمعت مَعَدّ عليه، وطلب من قائد الجيش أن
يوقد نارا على جبل خزاز، فإذا جاء العدوّ أشعل نارين، وحين أقبلت مذحج من اليمن
أشعلت ناران فاجتمع المقاتلون وتمكنوا من هزيمة مذحج.
حرب
البسوس
كان
لواء ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان للأكبر فالأكبر من ولده، وكان لكل واحد من
هؤلاء سنـّة تشير إلى سطوته. وحين وصل اللواء إلى وائل بن ربيعة بن الحارث اتخذ
سنة تميزه، فكان إذا سار أخذ معه جرو كلب، فإذا مرّ بروضة أو موضع يعجبه ضرب
الجرو، ثم ألقاه في ذلك المكان وهو يصيح ويعوي، فإذا سمع عواءه أحد ابتعد عن
المكان. وقد سمي وائل كليبا لهذا السبب.
بعد
انتصار كليب في يوم خزاز جعلت له معدّ قسم الملك وتاجه وطاعته، ثم دخله زهو شديد،
فبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ولا يورد
أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره. وقد تزوج كليب جليلة بنت مرة بن شيبان أخت
جساس بن مرة. وحمى كليب أرضا من العالية في أول الربيع، فلا يدخلها إلا محارب، غير
أن رجلا يسمى سعد بن شميس نزل بالبسوس خالة جساس بن مرة، وكان له ناقة اسمها سراب
ترعى مع نوق جساس، فاختلطت بإبل كليب، فأنكرها وعرف من جساس أنها ناقة جاره،
فأنذره بضرورة عدم رعيها مع إبله.
رفض
جساس إنذار كليب، وحين رأى كليب الناقة للمرة الثانية ضرب ضرعها فنفقت، واستجاب
جساس لصرخات البسوس التي اعتبرت تصرف كليب إذلالا لها ولجارها ولجساس، فثار جساس
وقتل كليبا، لتقوم بعد ذلك حرب استمرت أربعين عاما.
شخصيات
المسرحية
المهلهل:
أخو كليب، وقد حارب بكرا أرببعين عاما ثأرا لأخيه.
جساس:
قاتل كليب بناقة خالته البسوس.
الحارث
بن عباد: من بني بكر، غير أنه اعتزل الحب، ولم يشارك بها إلا بعد مقتل ابنه بجير.
هجرس:
ابن كليب الذي رباه خاله جساس بعد قتله أباه، وقد نسب مدة إلى المزدلف الذي تزوجته
الجليلة شكليا بعد مقتل كليب.
مرة:
أبو جساس وإخوته من بني بكر.
الجليلة:
زوجة كليب وأخت جساس، وقد تزوجت المزدلف شكلا بعد وفاة كليب.
امرؤ
القيس بن أبان: من بني تغلب. دعا المهلهل إلى عدم قتل جبير. وقد ضحى بنفسه من أجل
إيقاف الحرب.
المزدلف
(عمرو بن الحارث): تزوج الجليلة شكليا بعد مقتل كليب، وادعى أنه أبو هجرس.
بجير:
ابن الحارث بن عباد. قتله المهلهل بشسع نعل كليب، ولم يقبله كفؤا لكليب.
سعدى:
ابنة جساس. يتزوج بها هجرس.
أسماء:
بنت امرئ القيس بن أبان. تمتاز بالفروسية. أحبت بجيرا، وبعد مقتله مالت إلى هجرس.
نائلة:
زوجة جساس، وأخت أم الأغر.
أم
الأغر: زوجة الحارث بن عباد، وأخت المهلهل.
ذكوان:
عبد كان يحرض كليبا ضد جساس.
نشوان:
عبد كان يحرض جساسا ضد كليب.
مأمور
بن معاوية بن بكر: من مذحج. جاء ليأخذ بثأر أبيه من ابن كليب.
معد
يكرب: ابن سيف بن ذي يزن. وقد جاء ليجمع شمل العرب ضد الغزاة.
الشيخ:
صاحب الحانة التي قتل فيها هجرس المهلهل في اليمن.
حرب
البسوس في الأدب العربي الحديث
لم
يكن اهتمام الأدب العربي بصيغتيه الشعبية والرسمية بحرب البسوس نابعا من فراغ، فقد
حوت مكتبة التراث العربي أخبارا كافية لتصوير حكاية متكاملة عن هذه الحرب التي
استمرت أربعين عاما، إذ لم تقتصر الأخبار الواردة عن هذه الحرب على قادة المعارك
وخططهم من أجل النصر، بل ابتعدت في تصوير الأثر الإنساني للحرب لا سيما حين تقع
بين جماعات تربطها صلات قرابة.
هذا
فضلا عن أن حكاية هذه الحرب تناولت ثيمات أساسية في الثقافة العربية، كالثأر
وحماية الجار والنزعة نحو السيادة، وهي ثيمات ما زالت تأخذ حيزا واسعا في التفكير
العربي في هذه المرحلة. وقد أدت هذه الثيمات دورا بارزا في التأسيس لتداول واحدة
من أبرز السير الشعبية؛ إذ استندت سيرة "الزير سالم: أبو ليليى المهلهل"
إلى أخبار حرب البسوس في التراث العربي.
لم
يتوقف أثر أخبار هذه الحرب على الأدب الشعبي، فقد تأثر عدد من الأدباء بهذه
الحكاية، فوظف أمل دنقل حرب البسوس في صيغتها الشعبية في قصيدة "لا
تصالح" التي تعد واحدة من أهم قصائده وأكثرها انتشارا، كما لقي العمل الدرامي
"الزير سالم" الذي عرض عام 2000 على شاشة MBC رواجا كبيرا. أما مسرحية "حرب البسوس" لعلي أحمد باكثير
المتوفى عام 1969م التي تعد من أولى المحاولات الأدبية التي تناولت حرب البسوس فلم
تلق اهتماما نقديا ملائما. وسوف نركز عليها في هذه المقالة.
الموضوع
والمسرح: بين كتب الأخبار ومسرحية باكثير
للعمل
المسرحي ضروراته التي تختلف عن أي جنس أدبي آخر، فعلى الرغم من أن الاتجاهات
الحديثة في المسرح لم تشترط وحدة الزمان إلا أن طبيعة المسرحية تبقى أكثر ملاءمة
لعدم امتداد الزمن بما يؤدي إلى تفكك بنيتها. ومن هذا المنطلق تجاوز باكثير مرحلة
مقتل كليب لينفتح المشهد الأول من المسرحية على شخصية هجرس بعد مضيّ عشرين عاما من
مولده ومقتل أبيه كليب.
وقد
فرض هذا التعامل مع الزمن حوارات لا يخفى على القارئ أن وظيفتها توضيح ملامح
الحكاية منذ مقتل كليب.
ولم تتوقف ضرورات المسرح بوصفه جنسا أدبيا على عنصر الزمن بل تعدت ذلك إلى التصرف
في بعض الحوادث التاريخية بحكم طبيعة فن المسرح، فمن المعروف في كتب الأخبار أن
المهلهل وقع في أسر الحارث بن عباد يوم "تحلاق اللمم"، حيث استطاع
المهلهل أن يفلت من قبضة الحارث بن عباد، إذ كشف عن شخصيته وهو في قبضة الحارث بعد
أن أخذ عهدا منه بعدم قتله،
وحين طلب الحارث من مهلهل أن يدله على شخص كفؤ به دلّه على امرئ القيس بن أبان
الذي لم يوافق المهلهل على قتل بجير بن الحارث.
ولعل
باكثير أراد أن يقرب هذا الحدث من طبيعة المسرح، إذ لم ير من المناسب أن يقيم ساحة
الحرب على خشبة المسرح، فجعل المهلهل يتنكر في شخصية عبد يريد قتل الحارث، فلم
يتمكن من ذلك، وطلب الصفح عنه في حال كشف له عن مكان المهلهل، وحين وافق الحارث
كشف المهلهل عن شخصيته الحقيقية فتركه الحارث في حين قدم امرؤ القيس بن أبان نفسه
ليقتل ببجير.
لم
يكن إقبال امرئ القيس التغلبي على القتل بسيف الحارث مسوغا، فبنو تغلب هم
المطالبون بإيقاف الحرب التي صمموا فيها على الثأر لكليب، كما أن هذا الموقف الذي
رسمه باكثير أضعف شخصية الحارث بن عباد كثيرا إذ جعله يقبل على قتل امرئ القيس
بوعي كامل غير مقرون بحالة المعركة التي يمكن أن يقبل فيها المحارب على القتل إثر
انفعاله بحالة الحرب، كما أنه بدا شخصية ساذجة إذ انصاع لتحريض المهلهل وزوجته أم الأغر
له على امرئ القيس بن أبان.
وقد
أقدمت شخصية امرئ القيس بن أبان على التضحية بذاتها دون وجود مسوّغ مقنع، فسفر
المهلهل إلى اليمن كان كفيلا بإنهاء الحرب التي حرص فيها على الثأر لأخيه، فبدا
إقدام امرئ القيس على التضحية بنفسه موقفا مصطنعا مجانيّا لا يتسق مع حبكة الحكاية
التي تستند إلى الأخبار التاريخية على الرغم مما فيها من تصرف.
ولم
تتفق روايات كتب الأخبار حول موت المهلهل مع مسرحية باكثير، فالأخبار الواردة تقول
إن المهلهل مات وهو أسير عند عمرو بن مالك البكري،
في حين جاء مقتل المهلهل في مسرحية باكثير على يد هجرس الذي لحق به إلى اليمن. وإن
أخفق باكثير في رسم شخصيتي الحارث بن عباد وامرئ القيس بن أبان فقد نجح إلى حد
بعيد في رسم شخصيتي هجرس والمهلهل اللتين ارتبطتا بالحبكة الأساسية في المسرحية.
بقيت
شخصية هجرس تعيش صراعا داخليا نتيجة الشبه الكبير بكليب، فقد تربى هجرس في ظل بني
بكر على أنه ابن المزدلف الذي تزوجته الجليلة شكليا بعد مقتل كليب، وبعد أن أبعد
الحارث بن عباد المهلهل إلى اليمن تراجع عن قراره بالعفو عن المهلهل، فقرر هجرس
اللحاق به لقتله.
وعلى
الرغم من تحدي هجرس المستمر للمهلهل في المبارزة بقي المهلهل يرفض مبارزته بسبب
اعتقاده أنه ابن أخيه كليب، غير أن استفزاز هجرس المستمر للمهلهل وإبرازه لانتمائه
المطلق لأبيه المفترض المزدلف ولبني بكر جعل المهلهل يقبل على مبارزته، فتمكن منه
وأسقط السيف من يده، غير أن هجرس بعد عفو المهلهل عنه بقي مصمما على إتمام القتال،
واستطاع جرح المهلهل جرحا قاتلا أتاح له الكلام قبل وفاته، إذ شعر بالارتياح لأنه
لم يقتل ابن أخيه الذي خاض في الثأر له حربا طويلة.
لقد
نجح باكثير في هذا الفصل المسرحي في إبراز شخصية المهلهل المحبة للحياة وملذاتها،
كما استطاع أن يبرز خفة هذه الشخصية التي لم تقبل على الموت، فحاولت إقناع هجرس
بالإقلاع عن المبارزة بشتى السبل. وبرزت عواطف المهلهل في مشهد مؤثر تجاه ابن
شقيقه هجرس، إذ كان له الفضل في نجاته من الموت على الرغم من التسبب بجرحه جرحا
أدى إلى وفاته.
إن
مقتل المهلهل على يد هجرس ابن كليب الذي يشبهه إلى حد بعيد ذو دلالات عميقة،
فالحرب التي بدأها المهلهل ثأرا لأخيه كليب جاءت نهايتها بموت المهلهل على يد ابن
كليب الذي يعدّ وريث أبيه، وقتله للمهلهل قتل لهذه الحرب الداخلية بالانطلاق من
دافعها الثأري وبشرعية جاءت من وريث كليب. وإن كان مترددا في أبوّة كليب له فقد
شعر بأنه ينفذ واجبا في قتله لعمه المهلهل: "إن أكن من بكر فقد قتلت عدوا
لقومي طالما أوقع بهم وأثخن فيهم، وإن أكن من تغلب فقد أنقذت قومي من حرب خاسرة
وقتلت رجلا واحدا منهم لأحيي الباقين".
انتهت
الحرب بمقتل المهلهل غير أن باكثير لم يترك المسرحية تنتهي عند هذا الحد، فجعل
هجرس يحجم عن الثأر لأبيه بقتل جساس كما ورد في بعض كتب الأخبار،
ولا شك أن باكثير رمى بذلك إلى مغرى يتعلق بوحدة العرب وإيقاف الحروب الداخلية.
غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل تحولت شخصيات المسرحية في مجموعها إلى دمى
يحركها عبدان.
لقد
أسقط باكثير الصراعات الداخلية للعرب في العصر الحديث على مسرحيته بصورة لا تتفق
والمعطيات التاريخية للمرحلة التاريخية التي تنتمي إليها حرب البسوس، فجعل من
أبطال حرب البسوس دمى في أيدي عبدين شقيقين أهدى رأس اليهود في خيبر أحدهما لكليب
والآخر لمرّة، فقد أدى العبدان دورا أساسيا في إشعال الحرب من خلال التحريض، وبقيا
يؤديان هذا الدور في استمرار هذه الحرب.
لم
يكن اليهود في الجزيرة العربية أعداء العرب كما هو الحال في العصر الحديث، بل كانت
علاقاتهم بالقبائل طبيعية تتراوح بين عقد الأحلاف والحرب كما هو الحال مع أي قبيلة
أو تجمع بشري في الجزيرة العربية،
أما في العصر الحديث فقد ارتبطت الحركة الصهيونية باحتلال فلسطين وتآمراتها على
المنطقة. وقد أراد باكثير أن يلصق هذا التآمر بيهود الجزيرة بما يعبر عن صراع عقدي
صرف يشير إلى علاقة عداوة مطلقة باليهود دون الأخذ بعين الاعتبار التباينات بين
المراحل التاريخية المتعددة.
عبّرت
هذه الإشكالية التاريخية في مسرحية باكثير عن انشغاله بالهم القومي العربي في
العصر الحديث بوضوح، غير أن الفكرة بقيت ثقيلة على الحكاية إلى درجة أضعفتها إلى
حد بعيد، فقد كشف بمؤامرة اليهود عن ضعف الشخصيات التي عمل عليها منذ بداية
المسرحية، ولو اكتفى بمعالجة ثيمة الثأر بوصفها ثيمة مؤثرة في الثقافة العربية
لكانت مسرحيته أكثر تماسكا وعقلانية، بل إن فكرة الوحدة ونبذ الاقتتال الداخلي
التي ركز عليها في نهاية مسرحيته كانت ستبدو أكثر تأثيرا لو لم تقترن بفكرة
المؤامرة.