الأربعاء، 2 مايو 2012

خضرة ويباس

( 1 )

عندما كنت صغيرًا كانت أمي تمخض قلبي وتعلّمني الحب. تستلهم من وجعي وبكائي حبّ الأشياء. كنت أراني أركض بين الزيتون وغلات القمح، أنظر في سيقان الأشجار المقطوعة، فأبكي. تركض أمي نحوي وتنادي.
- يا لك من ولد ملوّع !
أستنكر وجعي وبكائي، أبعده قليلاً، لكني لا ألبث ساعة حتى أعود للبكاء. وكانت سميّة أختي الصغيرة هادئة, تجتاح الوجع المجنون بدحنونة، أهدأ ساعة ثم أعود للبكاء.
يا لك من قلب مراوغ! كلّما قالوا سيهدأ تعود للبكاء كمن يخرج للتوّ من رحم أمه. كم كنت تبكي وما زلت، يلتهم العالم نورك، يستلّ الوجع بسكّين. تنهض في قلبك كل تعاليم الخشوع. تبكي، ثم تصمت، ثم تبكي.
كان كل الأهل يراهنون على بكائي. سينتهي يومًا، ولسوف يكون بجمال الأرض وما فيها. وقال أحدهم: ابنكم يحتاج إلى مصحة أمراض عقلية، ها هو قد تعدّى عمره العشرين سنة وما زال يقضي معظم وقته بالبكاء.
خرج أبي وضرب القائل بعصاه، وكاد يدحرجه ويرميه في المستنقع المجاور. كان أبي يدرك أن بكائي لوعة، وكان يهدئني ويحاول أن يحرفني نحو الهدوء القاتل، فيقول: لا تبك فأرضك لن تبقى يابسة، لا بد تراها يوما مشعلا يجمع أوردة الحريق، ثم تتلون الخضرة بتلاوين المحبة بعد غرس الطريق.

( 2 )

كان ابني هذا الباكي يبعث لي رسائل كثيرة في المنفى، كان يكرر جملاً نواحيه في رسائله المبللة بالدموع. كنت أفهم، ولا أفهم … أحاول … وفي بعض الأحيان أرمي الأوراق في الصندوق إلى أن تنفك عني حال الغضب شبه الدائم، أو أمزّقها إربًا وأرميها في سلة المهملات.

مذ كنت صغيرًا كان دمي فائرًا. كنت أرى يبس الأشياء أقطعها، لا أصبر، لا أتوارى أبدًا خلف فناجين القهوة للصلح، بل كنت أواجه، أشرع صدري في وجه الريح، وألملم كل الحطابين من أجل إشعال الحريق .
كانت ابنتي سمية تهدئني بدحنونة، أمسكها، أهدأ، ثم أدرك انحصار الجمال، أمزق الدحنونة، ثم اتقيّأ.
في يوم صلبت أخي، علقته تحت حريق الشمس، وكنت سأبقيه حتى الموت، لكن سماسرة الحطب اجتمعوا، أنزلوه عن الصليب، وحاولوا قتلي، وذاع الخبر في أرجاء القرية، وصرت مهددًا في كل مكان. لو أشرع صدري في وجه الريح  سأُقتل حتمًا.

( 3 )

كان أبي وأخي أصدقاء، كنت أهدئهم بالدحنون. كثيرًا ما كانوا يجتمعون فيسود اجتماعهم حديث مبهم، ثم ينتقل الأمر بهم إلى البكاء والتكسير الذي يدوم فترات طويلة.
كنت أعاتب من كل صديقاتي على تهدئتهم بالدحنون. لكني كنت أحس نفسي منهم، والبكاء والغضب كانا يقيمان في قلبي وعقلي، وكل شيء أخضر كان يبكي، وكل اليباس كان سيتشظى لولا حرقه. وكنت أرى البكاء والغضب في عيون كل الناس.
16/أيلول/1999