الثلاثاء، 7 أغسطس 2012

حافة البياض


فتحت عيني فانطبعت الجدران السكرية على مرآتيهما، تراءى لي اليوم الماضي بكل تفاصيله: عينا أمي تحدقان في وجهي، يداها الباردتان، كلماتها الأخيرة: "سلموا على أخواتكم، نادوهن. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، جثتها في الثوب الأبيض المعقود من الجهتين.
قمت من الفراش، فتحت صنبور الماء وغسلت وجهي، فتحت باب الخزانة فإذا به يقع على حاجبي: كم تضربنا الحياة في صميم أرواحنا. تستل منا أجزاءنا وتتركنا نتحرك على حوافها المتعِبة. بحثت في الخزانة عن لباس يناسب الحداد، فتفاجأت بأن كل ما عندي مناسب له؛ ملابس سوداء، بنية، زرقاء غامقة، هذا ما لن أجد صعوبة في انتقائه، لبست أحدها وخرجت إلى بيت العزاء:
ـ عظم الله أجركم.
ـ شكر الله سعيكم.
في العزاء ما ينسيك برهة، ما يخرجك من انشداه المشهد، لكن في أوتاد الخيمة المؤقتة المنصوبة ما يجعلك تحس بأن الموت مناسبة؛ لا أحد يفكر بهذا الغياب السرمدي على الرغم من كلمات الواعظين ودعائهم؛ فالكلمات التي تقال تفكرًا في الموت لا تتعدى أن تكون لمعات في ذهن قائلها لا تلبث حتى يعود صاحبها إلى الحديث في موضوعات الساعة، قال أحدهم: الميت لا يختلف عن الأشياء، كالحجر والتراب. لكنه لم يقل إن الميت كالشجر. سأزرع على قبر أمي شجرة، سآكل من ثمارها، وليأكل الخلق منها.
كان بيتنا غابة صغيرة مليئة بالأشجار المثمرة من تين وزيتون وعناب ورمان وخوخ ولوز، كل هذا في بقعة لا تتجاوز الدونم الواحد، كنا نضع مخلفات الدجاج والبط بين حبات التراب فتفور الأشجار بالخير، أراني الآن في الخُضرة أحضر الأكياس الزراعية السوداء، أملؤها بالتراب الأحمر وأضعها أمام أمي فتضع فيها بذرتي الأسكادنيا: إذا ما طلعت هاي بتطلع الثانية، لآتي عليها بعد أسابيع وقد صارت أشجارًا صغيرة، فيبيعها أبي لأحد التجار وينتظر الموسم القادم، لكن الماء بدأ يشح شيئا فشيئا ما ألغى هذه المواسم مع الزمن. فتتابع بعد ذلك قطع الأشجار حتى لم يبق إلا بعضها.
صارت تلك الأيام موطنا للذكرى، صارت فكرة غائبة غير قابلة للإحياء أو حتى الاسترجاع الدقيق، هي مرحلة تمثل كينونة منفصلة غير قابلة للوصل مع الحاضر، حتى إنني أنظر إلى تلك المرحلة متحققا من مدى صحتها؛ هل كانت تلك الأيام بالفعل أم أنها حلم يمارس تأثيره علينا باستمرار؟
"يمّا الناس زمان كانوا يحبوا بعض، كان عند جيرانا دار أبو عبدالله - الله يسهل عليهم - حمار، وبيوم أجا الحمار وأكل من الزرع اللي بالحوش، طلع أبوك - الله يرحمه - على دار أبو عبدالله - الله يرحمه- وقال إله: حماركو أكل زرعنا. ومن يومها ما عدنا شفنا الحمار. راح أبوك على دار أبو عبدالله وقال له: وين راحت الدابة، ما عدت أشوفها حتى بباب داركو. قال أبو عبد الله: طخيتها. استغرب أبوك وسأله: ليش؟ قال أبو عبدالله: والله اللي بضايق أبو مصطفى بموته لو كان ابني، كيف لو كان حمار؟ هاي الأيام بسرقوا الحاجة من باب الدار".
انتهت أيام العزاء، وعدت إلى السهر، حاولت أن أمسك القلم، لكن إحساس الفقد يغلبني، كان صوت التلفاز عند أمي يعطيني شعورا بالأنس أثناء سهري، تناديني ساعة لتطعمني حبة تفاح، وساعة أخرى لتطلعني على فوائد الجزر التي يتحدث عنها أحد المذيعين، ثم أفزع ساعة على صوت نشيجها: "يا حسرتي عليكو يا الفلسطينية، ذبحوهم يمّا، بدهم يهدموا الأقصى". أحاول أن أهدئها وأصرف نظرها إلى ضرورة الاهتمام بصحتها: "لو كان البكا برجع حدا كلنا بنبكي". فتدعو رافعة يدها إلى السماء: الله يكسرك يا بوش...الله يهدّك يا شارون...الله يسخطها هاي الخنزيرة....كانت أمي لا تذكر اسمها. أقول لها: لو ماتوا في غيرهم كثير...
كانت أمي تتابع الأخبار ساعة بساعة، بل إنها صارت تتخذ مواقف إيديولوجية ثابتة تدافع عنها بمنطق قوي: مش مشكلة لو كان سني ولا شيعي، المهم بقول لا إله إلا الله، والشيعي اللي بدافع عن فلسطين الله ينصره وينصر من والاه ويعلي مقامه.
كانت ترفع صوت التلفاز عند سماع الأخبار؛ تقول: يمّا إنتو بتقدروا تقروا المكتوب بالتلفزيون، أما أنا يمّا يا حسرة لا قراية ولا كتابة.
قبل وفاتها بأسبوع كنت أدرّس ابني الحروف الهجائية أمامها، قالت والدمعة تجول في عينيها: توخذ شو ما بدك يمّا وتقرّيني... بس تعلمني القراية. احترت في الإجابة، وربما كنت قاسيًا حين قلت لها: يمّا شو بدّك بهالقصة، يمكن تغلبك كثير.
كان بيت أهلها كبيرا، وبعد أن توفي أبوها وأمها استأجرت الدولة جزءا من البيت لإقامة مدرسة. كانت تسمع وأختها الصغيرة صوت الأطفال يدرسون ويرددون الأناشيد دون أن تشاركهم: انحرمنا من القراية والمدرسة جوا الدار، انحرمنا من أشياء كثيرة يمّا... يا الله ما أصعب حياة اليتم.
حين نظرت إليّ مودعة أمسكت يديها الباردتين، في عينيها حرمان هادئ، لو أنها أسعفت الزمن لبقي اخضرار الدار، ولزرعت أمي أشجارا أكثر، لكنه الماء. لقد عزّ الماء حتى صار هذا اليباس.
صرت أحاول أن أدرج نفسي في تفاصيل الحياة، أن أغيب في تلك الألوان الغامقة التي تصلح للحياة كما تصلح للحداد، لكنني أراني أنشدّ إلى ذلك البياض الذي غطي فيه أبي، ثم غطيت فيه أمي، أراني أغيب شيئا فشيئا في ذلك البياض السرمدي.
الأحد 28/آذار/ 2010