السبت، 10 سبتمبر 2022

 


عن دار البيروني للنشر والتوزيع صدر حديثا كتاب "مراجعات نقدية وفلسفية" للناقد الأردني د. شفيق النوباني، وقد احتوى الكتاب إحدى عشرة مقالة تناولت أحد عشر كتابا، فافتتح الكتاب بمقالة عن الفواصل القرآنية عرض المؤلف من خلالها لكتاب جاء تحت عنوان "مراعاة الفواصل القرآنية: دراسة أصولية نحوية" للدكتور أحمد بالخير، ثم تناول في المقالة الثانية كتاب صلاح فضل "أساليب الشعرية المعاصرة"، وفي المقالة الثالثة عرض لكتاب سعيد يقطين "قال الراوي"، وحاول المؤلف في المقالة الرابعة أن يبرز المرجعية النظرية في كتاب غالي شكري "المنتمي- دراسات في أدب نجيب محفوظ"، وتناول في المقالتين الخامسة والسادسة كتابين لإبراهيم خليل أولهما "المثاقفة والمنهج في النقد الأدبي" وثانيهما "محمود درويش قيثارة فلسطين"، وعلى الرغم من أن المؤلف حاول استعراض فلسفة كروتشه من خلال عدد من المراجع في المقالة السابعة إلا أنه اعتمد على كتاب "المجمل في فلسفة الفن" بصورة أساسية فآثر ضم المقالة إلى هذا الكتاب، وهذا ما ينطبق على رؤية باختين النقدية في المقالة الثامنة؛ إذ اعتمد على كتابه "الخطاب الروائي" الذي ترجمه محمد برادة بوصفه مصدرا أساسيا، واستعرض في المقالة التاسعة كتاب "نظرية الفوضى: ما بعد ما بعد الحداثة" لشريفة العبودي، أما المقالة العاشرة فقد تناول من خلالها كتاب عبد الله الغذامي "القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة"، وتناول في المقالة الحادية عشرة كتاب "عودة الأنسنة في الفلسفة والأدب والسياسة" لجورج الفار.

 

السبت، 8 يونيو 2019

خوض درامي في تجربة صوفية: الحلاج في الدراما العربية

نتيجة بحث الصور عن العاشق صراع


د. شفيق طه النوباني
على الرغم من رسوخ التجربة الصوفية في التراث العربي الإسلامي والتراث الإنساني تبقى تجربة فريدة يصعب تمثيلها بما يؤدي إلى إيصالها إلى شرائح اجتماعية أكثر اتساعا، فهي تجربة باطنية كثيرا ما يبدو التوغل في فهمها صعب المنال دون خوضها والارتقاء في مقامتها بصورة فعلية. ولعل ذلك ما يجعل من مهمة إيصال واحدة من أهم التجارب الصوفية في التاريخ العربي والإنساني من خلال عمل درامي مهمة صعبة إلى حد بعيد.
وفي هذا العام اتجهت الدراما العربية إلى إنتاج عملين دراميين تناولا أهم تجربتين صوفيتين في التراث العربي الإسلامي؛ فقد عرض على قناة الإمارات مسلسل "مقامات العشق" الذي تناول تجربة ابن عربي في حين عرض مسلسل "العاشق – صراع الجواري" الذي تناول سيرة الحلاج على عدد من القنوات. وفي حين بدا العمل الأول في جانب كبير منه مناقشة مباشرة لقضايا معاصرة بثياب أندلسية جاء العمل الثاني ليعبر عن رؤية عميقة لمرحلة تاريخية لا تنفصل عن هذه المرحلة.
يتابع مسلسل "العاشق" شخصية الحلاج التي تمثلها الفنان غسان مسعود منذ الثلث الأخير من القرن الثالث الهجري، إذ يبدو الحلاج شخصية تعمل على إعمار باطنها لتحقق الخلاص الفردي لذاتها ، غير أن هاتفا أتاه ليدعوه إلى نقل التجربة إلى الآخرين. وهذا ما دعاه إلى خوض غمار المناظرة مع محمد بن داود الظاهري بعد أن أبلغ الشبلي بعدم رغبته في ذلك.
وتقود هذه المناظرة إلى استعداء ابن داود للحلاج؛ إذ رأى أنه منحرف في فكره عن أصول الشريعة. ولم ينجح ابن داود في الإيقاع بالحلاج إذ أقام دعوى ضده تولاها القاضي ابن سريج الذي برأه من تهمة الزندقة، ليباشر الحلاج فيما بعد نشاطه الصوفي والاجتماعي إذ تعلق به عدد من المريدين، وصار شخصية مؤثرة تخشاها السلطة. وهذا ما أدى إلى اقتياده إلى السجن وقتله في محاكمة تداول ذكرها المؤرخون.
في مقابل شخصية الحلاج ركز العمل الدرامي على شخصية "النطل" المستوحاة من المرحلة التاريخية. والنطل نخاس يعمل على تجهيز الجواري ليكنّ في بيوت الطبقة المتنفذة في الدولة العباسية، فهو يعلمهن فنون الأدب والرقص ليكن جاهزات للتعامل مع هذه الطبقة، غير أن حياة الترف التي يعيشها النطل لم تدم إذ حرق القرامطة داره وأسروه طمعا في أمواله، وقد استطاع التخلص من أسرهم له، فاتجه إلى تأسيس عمله من جديد، إذ أقدم بالتعاون مع أحد أصحاب الأسبقيات على سرقة الأطفال من أهاليهم لخصيهم والاتجار بهم، إلى أن أبلغت الجارية التي استخدمها للعناية بالأطفال عنه عند الوزير، فاجتمع في السجن مع الحلاج.
وقد اتخذ السيناريو من الجواري اللواتي في بيت النطل مدخلا إلى حياة قصر الخلافة، إذ ابتاعت القهرمانة فاطمة مجموعة من الجواري للخليفة المقتدر، فكان بينهن "هزارا" القرمطية التي تزوجها المقتدر، وانتهت إلى القتل بسمّ دسته لها "شغب" أم المقتدر التي كانت تسيطر على مقاليد الحكم في ظل الخليفة الذي اختار حياة اللهو.
منذ الحلقة الأولى من العمل تبقى شخصية الحلاج منفصلة تماما عن شخصية النطل، حتى أن المشاهد يشعر أنه أمام حبكتين منفصلتين لا جامع بينهما، غير أن التقاء الحلاج بالنطل في السجن أبرز هذه المقابلة وحافظ على قدر من وحدة الحبكة. على أن أهمية هذا العمل الدرامي لا تتوقف عند تسلسل الأحداث أو علاقتها بالتاريخ.
لن يجد الباحث عن تسجيل حرفي للتاريخ ضالته في هذا العمل، فقد استفاد المؤلف أحمد المغربي من الروايات التاريخية بصورة واضحة، غير أن اعتماده على هذه الروايات لم يمنع إبراز رؤية فنية وفكرية متماسكة، بل إن المغربي اعتمد بصورة كبيرة على ما ورد في سيرة الحلاج الشعبية، إذ جعل العديد من أحداث هذه السيرة تبرز من خلال رؤيا الحلاج التي جاءت في الحلقات الأخيرة من المسلسل.
وقد نجح المغربي في هذا التوظيف للسيرة الشعبية، فالأكثر أهمية في شخصية الحلاج هو ما رسخ في أذهان الناس عن هذه الشخصية، وليس ما حدث بالفعل معها، ففي حين روى الكثيرون عن سحر الحلاج وشعوذاته روى الكثيرون أيضا عن كراماته وتعلق المتصوفة به. وعدم الاتفاق على شخصية الحلاج جعلها موضوعا للقراءة والتأويل.
صوّر العمل الدرامي حالة التصوف من خلال خلوات الحلاج التي كان يتوجه فيها إلى الله سبحانه وتعالى، وركز بصورة معقولة على مشاهد الذكر التي كان يجتمع فيها المتصوفة. ومن الطبيعي أن يركز العمل على احتكاك المتصوفة بالمجتمع وبالاتجاهات الدينية الأخرى، فجاء دفاع الحلاج عن ممارسة المسيحيين لشعائرهم من خلال مشهد يقترب من المباشرة، فيما عبر مشهد شكوى حمد لأبيه الحلاج من استضعاف أتباع محمد بن داود له مشهدا مؤثرا ينفتح على دلالات عميقة.
انتهت أحداث العمل الدرامي إلى مفارقة أساسية تمثلت في اجتماع الحلاج بالنطل في السجن، فحين دخل الحلاج السجن لاقاه النطل وأبلغه أنه لا يحب شعره، ثم سأله عن تهمته التي جاءت به إلى السجن، فأجابه بأن تهمته الزندقة أو القرمطة، فضحك النطل بصوت مرتفع وقال إن تهمته هي الفجور. مرت سنوات على النطل مع الحلاج في السجن، فتأثر به وصار من مريديه. وحين اضطربت بغداد هرب المساجين، فحث النطل الحلاج على الهروب، غير أن الأخير آثر البقاء في السجن.
لقد اجتمع الزاهد مع الفاجر في سجن واحد، فهرب الفاجر وبقي الزاهد يواجه مصير القتل بمحض إرادته، وإن كان النطل قد تأثر إلى حد بعيد بالحلاج فإن تأثره هذا يبقى شكلا من أشكال التكفير عن الخطايا، فهو ما زال غير قادر على مواجهة مصير ارتبط بما ارتكبه من ذنوب بحق الناس.
لم يتجه الحلاج إلى السجن بذاته، بل جعل "إيشا" المشرفة على الجواري في بيت النطل تأخذ جائزة تسليمه للشرطة، والمطالع لهذا الحدث يتساءل عن تعليل تجيير القبض على الحلاج لصالح امرأة مثل "إيشا". ولعل المغربي أراد هذا التجيير بالفعل، فالأمور الدنيوية عادة ما تؤول لصالح أمثال "إيشا" من قناصي الفرص. وهي تؤول بطبيعة الحال لصالح من حكموا على الحلاج دون أن يرف لهم جفن.
حضرت لغة التصوف في هذا العمل الدرامي بصورة تشير إلى ثقافة الكاتب في هذا المجال، فبرزت هذه اللغة في ابتهالات الحلاج ومناظرته مع ابن داود، غير أن أكثر ما يلفت الانتباه اعتماد العمل لغة الإيماء في محاولة للاعتماد على موروث المتصوفة في هذا المجال:
ومن عجب الأشياء ظبي مبرقع      يشير بعناب، ويومي بأجفان
فشخصية الحلاج بدت قليلة الإقبال على الكلام، تتجه إلى الإيماء للتعبير عن دواخلها أحيانا، بل إن حوار الحلاج مع الجنيد بدا قليلا على الرغم من الاختلاف الأساسي الذي أبرزه العمل الدرامي بينهما، وهو الاختلاف على مدى سريّة التجربة الصوفية. وقد أبرز مخرج العمل هذا الملحظ بفنية عالية أشارت إلى استيعابه طبيعة هذه التجربة.
لقد أبعد العمل الدرامي تجربة الحلاج عن صراعات السياسة، فجعله ضحية لها دون أن يجعله طرفا أساسيا فيها كما جاء في بعض الروايات التاريخية، فبدت صراعات القصر وجواريه حالة موازية لحالة الحلاج، فما يدور في القصر من مساع لاحتياز الحكم لا تتقاطع مع مساعي الحلاج إلا بمقدار سعيه إلى نشر وعي أكثر نورانية.
إذا طالعنا كتب التاريخ في عام 306 ه سنجدها تنوه إلى مقتل الحلاج في هذا العام، وإن أشار ذلك إلى شيء فإنما يشير إلى أهمية هذه الشخصية التي تنبه إليها الدارسون والأدباء من عرب ومستشرقين. وفي التفات هذا العمل إلى شخصية الحلاج ما يفتح الباب لإنتاج أعمال درامية أخرى تتناول شخصيات جدلية وفق رؤى واعية. 

الأحد، 21 أبريل 2019

قراءة في مسرحية "حرب البسوس" لعلي أحمد باكثير


د. شفيق طه النوباني
الخلفية التاريخية
قبل الشروع في تناول مسرحية "حرب البسوس" من الضروري الوقوف على يوم خزاز وحرب البسوس حتى نتمكن من قراءة المسرحية بصورة أفضل.
يوم خزاز
 ليوم خزاز أثر مهم في تحديد الإشكالية التي بنيت عليها حرب البسوس، فقد أدى هذا اليوم إلى التمكين لكليب الذي سيأتي ذكره لاحقا. ويوم خزاز من أيام العرب المعروفة، حيث أسر أحد ملوك اليمن أشخاصا من مضر وربيعة وقضاعة، فوفد عليه وجوه من بني معد، فاحتبس الملك عنده بعض الوفد رهينة، وقال للباقين: ائتوني برؤساء قومكم لآخذ عليهم المواثيق بالطاعة لي، وإلا قتلت أصحابكم.
رجعوا إلى قومهم، فجمع كليب وائل ربيعة، ثم اجتمعت مَعَدّ عليه، وطلب من قائد الجيش أن يوقد نارا على جبل خزاز، فإذا جاء العدوّ أشعل نارين، وحين أقبلت مذحج من اليمن أشعلت ناران فاجتمع المقاتلون وتمكنوا من هزيمة مذحج.
حرب البسوس
كان لواء ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان للأكبر فالأكبر من ولده، وكان لكل واحد من هؤلاء سنـّة تشير إلى سطوته. وحين وصل اللواء إلى وائل بن ربيعة بن الحارث اتخذ سنة تميزه، فكان إذا سار أخذ معه جرو كلب، فإذا مرّ بروضة أو موضع يعجبه ضرب الجرو، ثم ألقاه في ذلك المكان وهو يصيح ويعوي، فإذا سمع عواءه أحد ابتعد عن المكان. وقد سمي وائل كليبا لهذا السبب.
بعد انتصار كليب في يوم خزاز جعلت له معدّ قسم الملك وتاجه وطاعته، ثم دخله زهو شديد، فبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ولا يورد أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره. وقد تزوج كليب جليلة بنت مرة بن شيبان أخت جساس بن مرة. وحمى كليب أرضا من العالية في أول الربيع، فلا يدخلها إلا محارب، غير أن رجلا يسمى سعد بن شميس نزل بالبسوس خالة جساس بن مرة، وكان له ناقة اسمها سراب ترعى مع نوق جساس، فاختلطت بإبل كليب، فأنكرها وعرف من جساس أنها ناقة جاره، فأنذره بضرورة عدم رعيها مع إبله.
رفض جساس إنذار كليب، وحين رأى كليب الناقة للمرة الثانية ضرب ضرعها فنفقت، واستجاب جساس لصرخات البسوس التي اعتبرت تصرف كليب إذلالا لها ولجارها ولجساس، فثار جساس وقتل كليبا، لتقوم بعد ذلك حرب استمرت أربعين عاما.
شخصيات المسرحية
المهلهل: أخو كليب، وقد حارب بكرا أرببعين عاما ثأرا لأخيه.
جساس: قاتل كليب بناقة خالته البسوس.
الحارث بن عباد: من بني بكر، غير أنه اعتزل الحب، ولم يشارك بها إلا بعد مقتل ابنه بجير.
هجرس: ابن كليب الذي رباه خاله جساس بعد قتله أباه، وقد نسب مدة إلى المزدلف الذي تزوجته الجليلة شكليا بعد مقتل كليب.
مرة: أبو جساس وإخوته من بني بكر.
الجليلة: زوجة كليب وأخت جساس، وقد تزوجت المزدلف شكلا بعد وفاة كليب.
امرؤ القيس بن أبان: من بني تغلب. دعا المهلهل إلى عدم قتل جبير. وقد ضحى بنفسه من أجل إيقاف الحرب.
المزدلف (عمرو بن الحارث): تزوج الجليلة شكليا بعد مقتل كليب، وادعى أنه أبو هجرس.
بجير: ابن الحارث بن عباد. قتله المهلهل بشسع نعل كليب، ولم يقبله كفؤا لكليب.
سعدى: ابنة جساس. يتزوج بها هجرس.
أسماء: بنت امرئ القيس بن أبان. تمتاز بالفروسية. أحبت بجيرا، وبعد مقتله مالت إلى هجرس.
نائلة: زوجة جساس، وأخت أم الأغر.
أم الأغر: زوجة الحارث بن عباد، وأخت المهلهل.
ذكوان: عبد كان يحرض كليبا ضد جساس.
نشوان: عبد كان يحرض جساسا ضد كليب.
مأمور بن معاوية بن بكر: من مذحج. جاء ليأخذ بثأر أبيه من ابن كليب.
معد يكرب: ابن سيف بن ذي يزن. وقد جاء ليجمع شمل العرب ضد الغزاة.
الشيخ: صاحب الحانة التي قتل فيها هجرس المهلهل في اليمن.
حرب البسوس في الأدب العربي الحديث
لم يكن اهتمام الأدب العربي بصيغتيه الشعبية والرسمية بحرب البسوس نابعا من فراغ، فقد حوت مكتبة التراث العربي أخبارا كافية لتصوير حكاية متكاملة عن هذه الحرب التي استمرت أربعين عاما، إذ لم تقتصر الأخبار الواردة عن هذه الحرب على قادة المعارك وخططهم من أجل النصر، بل ابتعدت في تصوير الأثر الإنساني للحرب لا سيما حين تقع بين جماعات تربطها صلات قرابة.
هذا فضلا عن أن حكاية هذه الحرب تناولت ثيمات أساسية في الثقافة العربية، كالثأر وحماية الجار والنزعة نحو السيادة، وهي ثيمات ما زالت تأخذ حيزا واسعا في التفكير العربي في هذه المرحلة. وقد أدت هذه الثيمات دورا بارزا في التأسيس لتداول واحدة من أبرز السير الشعبية؛ إذ استندت سيرة "الزير سالم: أبو ليليى المهلهل" إلى أخبار حرب البسوس في التراث العربي.
لم يتوقف أثر أخبار هذه الحرب على الأدب الشعبي، فقد تأثر عدد من الأدباء بهذه الحكاية، فوظف أمل دنقل حرب البسوس في صيغتها الشعبية في قصيدة "لا تصالح" التي تعد واحدة من أهم قصائده وأكثرها انتشارا، كما لقي العمل الدرامي "الزير سالم" الذي عرض عام 2000 على شاشة MBC رواجا كبيرا. أما مسرحية "حرب البسوس" لعلي أحمد باكثير المتوفى عام 1969م التي تعد من أولى المحاولات الأدبية التي تناولت حرب البسوس فلم تلق اهتماما نقديا ملائما. وسوف نركز عليها في هذه المقالة.
الموضوع والمسرح: بين كتب الأخبار ومسرحية باكثير
للعمل المسرحي ضروراته التي تختلف عن أي جنس أدبي آخر، فعلى الرغم من أن الاتجاهات الحديثة في المسرح لم تشترط وحدة الزمان إلا أن طبيعة المسرحية تبقى أكثر ملاءمة لعدم امتداد الزمن بما يؤدي إلى تفكك بنيتها. ومن هذا المنطلق تجاوز باكثير مرحلة مقتل كليب لينفتح المشهد الأول من المسرحية على شخصية هجرس بعد مضيّ عشرين عاما من مولده ومقتل أبيه كليب.
وقد فرض هذا التعامل مع الزمن حوارات لا يخفى على القارئ أن وظيفتها توضيح ملامح الحكاية منذ مقتل كليب. ولم تتوقف ضرورات المسرح بوصفه جنسا أدبيا على عنصر الزمن بل تعدت ذلك إلى التصرف في بعض الحوادث التاريخية بحكم طبيعة فن المسرح، فمن المعروف في كتب الأخبار أن المهلهل وقع في أسر الحارث بن عباد يوم "تحلاق اللمم"، حيث استطاع المهلهل أن يفلت من قبضة الحارث بن عباد، إذ كشف عن شخصيته وهو في قبضة الحارث بعد أن أخذ عهدا منه بعدم قتله، وحين طلب الحارث من مهلهل أن يدله على شخص كفؤ به دلّه على امرئ القيس بن أبان الذي لم يوافق المهلهل على قتل بجير بن الحارث.
ولعل باكثير أراد أن يقرب هذا الحدث من طبيعة المسرح، إذ لم ير من المناسب أن يقيم ساحة الحرب على خشبة المسرح، فجعل المهلهل يتنكر في شخصية عبد يريد قتل الحارث، فلم يتمكن من ذلك، وطلب الصفح عنه في حال كشف له عن مكان المهلهل، وحين وافق الحارث كشف المهلهل عن شخصيته الحقيقية فتركه الحارث في حين قدم امرؤ القيس بن أبان نفسه ليقتل ببجير.
لم يكن إقبال امرئ القيس التغلبي على القتل بسيف الحارث مسوغا، فبنو تغلب هم المطالبون بإيقاف الحرب التي صمموا فيها على الثأر لكليب، كما أن هذا الموقف الذي رسمه باكثير أضعف شخصية الحارث بن عباد كثيرا إذ جعله يقبل على قتل امرئ القيس بوعي كامل غير مقرون بحالة المعركة التي يمكن أن يقبل فيها المحارب على القتل إثر انفعاله بحالة الحرب، كما أنه بدا شخصية ساذجة إذ انصاع لتحريض المهلهل وزوجته أم الأغر له على امرئ القيس بن أبان.
وقد أقدمت شخصية امرئ القيس بن أبان على التضحية بذاتها دون وجود مسوّغ مقنع، فسفر المهلهل إلى اليمن كان كفيلا بإنهاء الحرب التي حرص فيها على الثأر لأخيه، فبدا إقدام امرئ القيس على التضحية بنفسه موقفا مصطنعا مجانيّا لا يتسق مع حبكة الحكاية التي تستند إلى الأخبار التاريخية على الرغم مما فيها من تصرف.
ولم تتفق روايات كتب الأخبار حول موت المهلهل مع مسرحية باكثير، فالأخبار الواردة تقول إن المهلهل مات وهو أسير عند عمرو بن مالك البكري، في حين جاء مقتل المهلهل في مسرحية باكثير على يد هجرس الذي لحق به إلى اليمن. وإن أخفق باكثير في رسم شخصيتي الحارث بن عباد وامرئ القيس بن أبان فقد نجح إلى حد بعيد في رسم شخصيتي هجرس والمهلهل اللتين ارتبطتا بالحبكة الأساسية في المسرحية.
بقيت شخصية هجرس تعيش صراعا داخليا نتيجة الشبه الكبير بكليب، فقد تربى هجرس في ظل بني بكر على أنه ابن المزدلف الذي تزوجته الجليلة شكليا بعد مقتل كليب، وبعد أن أبعد الحارث بن عباد المهلهل إلى اليمن تراجع عن قراره بالعفو عن المهلهل، فقرر هجرس اللحاق به لقتله.
وعلى الرغم من تحدي هجرس المستمر للمهلهل في المبارزة بقي المهلهل يرفض مبارزته بسبب اعتقاده أنه ابن أخيه كليب، غير أن استفزاز هجرس المستمر للمهلهل وإبرازه لانتمائه المطلق لأبيه المفترض المزدلف ولبني بكر جعل المهلهل يقبل على مبارزته، فتمكن منه وأسقط السيف من يده، غير أن هجرس بعد عفو المهلهل عنه بقي مصمما على إتمام القتال، واستطاع جرح المهلهل جرحا قاتلا أتاح له الكلام قبل وفاته، إذ شعر بالارتياح لأنه لم يقتل ابن أخيه الذي خاض في الثأر له حربا طويلة.
لقد نجح باكثير في هذا الفصل المسرحي في إبراز شخصية المهلهل المحبة للحياة وملذاتها، كما استطاع أن يبرز خفة هذه الشخصية التي لم تقبل على الموت، فحاولت إقناع هجرس بالإقلاع عن المبارزة بشتى السبل. وبرزت عواطف المهلهل في مشهد مؤثر تجاه ابن شقيقه هجرس، إذ كان له الفضل في نجاته من الموت على الرغم من التسبب بجرحه جرحا أدى إلى وفاته.
إن مقتل المهلهل على يد هجرس ابن كليب الذي يشبهه إلى حد بعيد ذو دلالات عميقة، فالحرب التي بدأها المهلهل ثأرا لأخيه كليب جاءت نهايتها بموت المهلهل على يد ابن كليب الذي يعدّ وريث أبيه، وقتله للمهلهل قتل لهذه الحرب الداخلية بالانطلاق من دافعها الثأري وبشرعية جاءت من وريث كليب. وإن كان مترددا في أبوّة كليب له فقد شعر بأنه ينفذ واجبا في قتله لعمه المهلهل: "إن أكن من بكر فقد قتلت عدوا لقومي طالما أوقع بهم وأثخن فيهم، وإن أكن من تغلب فقد أنقذت قومي من حرب خاسرة وقتلت رجلا واحدا منهم لأحيي الباقين".
انتهت الحرب بمقتل المهلهل غير أن باكثير لم يترك المسرحية تنتهي عند هذا الحد، فجعل هجرس يحجم عن الثأر لأبيه بقتل جساس كما ورد في بعض كتب الأخبار، ولا شك أن باكثير رمى بذلك إلى مغرى يتعلق بوحدة العرب وإيقاف الحروب الداخلية. غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل تحولت شخصيات المسرحية في مجموعها إلى دمى يحركها عبدان.
لقد أسقط باكثير الصراعات الداخلية للعرب في العصر الحديث على مسرحيته بصورة لا تتفق والمعطيات التاريخية للمرحلة التاريخية التي تنتمي إليها حرب البسوس، فجعل من أبطال حرب البسوس دمى في أيدي عبدين شقيقين أهدى رأس اليهود في خيبر أحدهما لكليب والآخر لمرّة، فقد أدى العبدان دورا أساسيا في إشعال الحرب من خلال التحريض، وبقيا يؤديان هذا الدور في استمرار هذه الحرب.
لم يكن اليهود في الجزيرة العربية أعداء العرب كما هو الحال في العصر الحديث، بل كانت علاقاتهم بالقبائل طبيعية تتراوح بين عقد الأحلاف والحرب كما هو الحال مع أي قبيلة أو تجمع بشري في الجزيرة العربية، أما في العصر الحديث فقد ارتبطت الحركة الصهيونية باحتلال فلسطين وتآمراتها على المنطقة. وقد أراد باكثير أن يلصق هذا التآمر بيهود الجزيرة بما يعبر عن صراع عقدي صرف يشير إلى علاقة عداوة مطلقة باليهود دون الأخذ بعين الاعتبار التباينات بين المراحل التاريخية المتعددة.
عبّرت هذه الإشكالية التاريخية في مسرحية باكثير عن انشغاله بالهم القومي العربي في العصر الحديث بوضوح، غير أن الفكرة بقيت ثقيلة على الحكاية إلى درجة أضعفتها إلى حد بعيد، فقد كشف بمؤامرة اليهود عن ضعف الشخصيات التي عمل عليها منذ بداية المسرحية، ولو اكتفى بمعالجة ثيمة الثأر بوصفها ثيمة مؤثرة في الثقافة العربية لكانت مسرحيته أكثر تماسكا وعقلانية، بل إن فكرة الوحدة ونبذ الاقتتال الداخلي التي ركز عليها في نهاية مسرحيته كانت ستبدو أكثر تأثيرا لو لم تقترن بفكرة المؤامرة.






الجمعة، 14 نوفمبر 2014

في طريق الكتابة


د.شفيق طه النوباني
إذا كانت تجربة الأديب لا تنفصل بالضرورة عن الحياة، فإن تجربة الناقد لا تنفصل بالضرورة أيضا عن الحياة والأدب وفلسفتيهما، فالأدب هو التجربة الحميمة المتماسكة في تكوينها الداخلي، والنقد هو التجربة التي تتعايش مع التجربة الأدبية محاولة أن تحيط بها من خلال كشف تماسكها الداخلي الذي يمثل بطبيعة الحال وجها من وجوه العالم في خارج النص. وهذا ما يفرض بطبيعة الحال الالتفات إلى خارج النص بمقدار ما يفرض النص نفسُه تناوله الداخلي.
بنيت هذا التصور في النقد بعد أن انبهرت لوهلة بمصطلحات الحداثة ومفاهيمها، فانحصرت في محاولات فهم البنيوية والأسلوبية والشكلانية، غير أن توجهي فيما بعد إلى دراسة المنهج الواقعي من خلال نتاج الدكتور عبد الرحمن ياغي نقلني إلى حيز مختلف تماما في التناول النقدي، حيث أنجزت هذه الدراسة في مرحلة الماجستير بإشراف الدكتور نايف العجلوني، وقد منحني التواصل مع الناقد الدكتور عبد الرحمن ياغي حيوية أكبر أثناء إنجاز الدراسة، إذ أسهمت محاوراتي معه في إثراء بحثي.
لقد قادني بحثي في نتاج ياغي إلى تغيير جوهري في وجهة نظري النقدية، فالأدب لا يمثل منحى جماليا حسب أو بنية لغوية مغلقة، بل يمثل موقفا فكريا لا يستبعد تركيب المجتمع ومكوناته. ومع أنني لم أسع بعد دراستي لنتاج ياغي إلى تطبيق المنهج الواقعي بأدواته الماركسية بحذافيرها في مراجعاتي التطبيقية إلا أنني لم أستبعد خلفية النص الاجتماعية والثقافية فضلا عن رؤيته التي تأخذ بعين الاعتبار المعطى الجمالي في داخل النص كما تتجه إلى خارجه وفق اعتبارات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، حيث يؤدي البعد الجمالي والبنيوي دوره العميق في توصيل الرؤية.
ولا يعني هذا التوجه إلى رؤية النص تجاوز المناهج الحداثية أو حتى اعتبارها بعيدة عن حضارتنا وثقافتنا، فهذه المناهج وليدة اتجاهات فلسفية عميقة لا يمكن تجاوزها، ومهما اختلفت الثقافات يبقى المشترك الإنساني قائما فضلا عن ذلك المشترك المتعلق بالطبيعة الأدبية، غير أن ما ينبغي الالتفات إليه أن هذه الاتجاهات الحداثية تبقى قابلة للنقد من منطلقات متعددة لعل أهمها ذلك المنطلق الفلسفي الذي نبعت منه.
كان الدكتور شكري عزيز الماضي في مادة "نظرية الأدب" التي انتظمت فيها في مرحلة الدكتوراه قد طرح عددا من الأسئلة المفتاحية من مثل: ما الأدب؟ ما علاقة الأدب بالحقيقة؟ وما علاقته بالسياسة؟ وقد جمعت إجابتي عن هذه الأسئلة في مقالة سبق أن نشرتها في الرأي الثقافي، حيث وضعتني هذه الأسئلة أمام تحديد أكثر دقة فيما يتعلق بتناولي النقدي للأدب، آخذا بعين الاعتبار أن هذا التناول ينبغي ألا يبتعد عن طبيعة الأدب الذي يتواشج مع العلوم الإنسانية على تنوّعها كما أنه لا يبتعد بطبيعة الحال عن الواقع والحياة، بل إنه نابع منها أصلا.
الأدب رؤية. هذا ما توصلت إليه مستهديا بآراء عدد من النقاد الذين نظروا إلى الأدب من وجهة النظر هذه. إنها رؤية تعبر من خلال اختيارات الأديب في عناصر عمله الأدبي عن وجهة نظره في شتى مجالات الحياة. وهي رؤية تقترب من الحدس، فهي لا تتوصل إلى ما تتوصل إليه بطريقة علمية بحثية.
لا تنفصل المنهجية أو تكوين الرؤية النقدية لدى أي كاتب أو ناقد عن تفاعله البحثي مع أساتذته، وقد كان لدراستي في ثلاث جامعات أردنية دور في تحقيق تعامل مع أكبر عدد ممكن من الأساتذة، فقد تتلمذت في مجال نقد الرواية مثلا على يد نخبة من أهم الأساتذة في هذا المجال، كالدكتور إبراهيم السعافين، والدكتور شكري الماضي، والدكتور إبراهيم الفيومي رحمه الله، والدكتور نبيل حداد، والدكتور محمد الشوابكة، والدكتور إبراهيم خليل الذي يعد نقد الرواية واحدا من اهتماماته. ولا يخفى على الدارس في هذا المجال أن لكل من هؤلاء منهجيته ورؤيته وإن كان هناك الكثير من التقاطعات بين منهجياتهم. وما زلت أذكر أول محاولة تحليلية للرواية حين أقدمت على تناول روايتي "المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة" لحنا مينا مستهديا بالمادة العلمية التي  تلقيتها لدى الكتور إبراهيم الفيومي، كما تناولت عددا من الروايات لدى الدكتور إبراهيم السعافين في مرحلة الدكتوراه، وأحسب أن أدواتي النقدية قد تطورت في هذه المرحلة نتيجة الممارسة، ونتيجة تنوع مصادر المعرفة.
يقول إدوين موير: إن "الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يحدثنا عن الرواية هو الرواية" منطلقا في هذا القول من تناوله للحبكة في هذا الجنس الأدبي، وقد وجدت في هذا القول واحدا من أهم الأسس التي يمكن الانطلاق منها في تناول الرواية، إذ لا يمكن تجاوز الأحداث التي ترتبط بطبيعة الحال بباقي عناصر الرواية مما يسهم في إبراز الرؤية الكلية لها.
والرؤية في العمل الأدبي لا تقتصر في دلالتها على مقولة الأديب الأساسية، بل تتعدى ذلك إلى الخلفية المعرفية والثقافية والاجتماعية والسياسية والجمالية التي انطلق منها الأديب في توصيل مقولته تلك، حيث تتضافر اللغة وبقية العناصر في تقديم هذه المقولة، كما يتم تبئير عنصر ما في العمل الأدبي يكون أقدر على توصيل هذه الرؤية، فالرواية التي تحتفي بالتحولات التي طرأت على الأجيال تقدم عنصر الإنسان وتجعله بؤرتها، والرواية التي تحتفي بمكان ما تقدم هذا العنصر وتجعله في بؤرتها، ومن المعروف أن الروايات البوليسية مثلا تركز على عنصر الحدث لما فيه من تشويق يجذب القارئ للقراءة أكثر.
هذا هو النهج الذي اتبعته في قراءة الروايات التي تناولتها في مقالات نشرتها في المجلات والصحف، وهذا هو النهج الذي اتبعته في دراستي لأربع عشرة رواية في أطروحة الدكتوراه الموسومة ب"عمان في الرواية العربية في الأردن"، إذ اتجهت بإشراف الدكتور شكري الماضي إلى دراسة الرؤية في كل رواية من هذه الروايات، واتجهت إلى دراسة البناء بما لا ينفصل عن الرؤية، ثم تناولت أبعاد الأمكنة المختلفة للمدينة بما ينسجم مع المبحثين السابقين.
ولم تبتعد قراءتي لعدد من المجاميع القصصية عن التوصل إلى الرؤية من خلال هذه الأدوات نفسها، غير أن التوصل إلى رؤية القاص سيكون بطبيعة الحال من خلال نصوص قصيرة نسبيا، مما يجعل إمكانية الاستعانة بنصوص متعددة للتوصل إلى الرؤية الكلية أمرا ضروريا في الأغلب، وإن كان هذا الأمر مهما أيضا قي دراسة الرواية إلا أنه يبدو ضرورة ملحة في القصة القصيرة.
وقد حاولت من خلال غير دراسة للأدب الشعبي أن أستكمل توجهي في دراسة الأدب، غير أن ما يجب التنويه إليه في هذا المجال أن الرؤية في هذا النوع الأدبي تنطلق من الضمير الجمعي الذي يحتكم إليه سلوكُنا بوصفنا منتمين إلى ثقافة واحدة، ما يجعل الرؤية هنا رؤية شعب أكثر من كونها رؤية أديب أو حكواتي، وقد حاولت في دراستي للهوية القومية من خلال سيرة "حمزة العرب" أن أكشف عن ذلك الميل الشعبي لتجديد الهوية القومية خاصة فيما يتعلق بالنظرة إلى السلطة والحكم، وحاولت أن أتوصل إلى مفهوم الدين ومكوناته في السيرة الشعبية من خلال دراسة "تغريبة بني هلال".  كما حاولت أن أكشف عن نقاط الالتقاء بين الرؤية الشعبية ورؤية المثقف االمعاصر من خلال دراسة التعالق النصي بين سيرة "الزير سالم" وقصيدة أمل دنقل "أقوال جديدة عن حرب البسوس".
 لم يكن ارتضائي لدراسة الرؤية في الأدب معزولا عن الموقف الحضاري للأمة العربية أو أبعاد هذا الموقف في شتى المجالات، فلعل أمتنا ما زالت بأمس الحاجة إلى تقبل الرؤى المتنوعة وتسويغها وتفهم خلفياتها الفلسفية والفكرية بما لا يزعزع معنى الهوية ولا ينقلب عليها، ومن هنا لم أحاول أن أتدخل في أي من الرؤى التي قدمتها إلا بما يتناول الثغرات أو التناقضات في داخلها، أما الأدوات التي يعتمد عليها الأديب في تناوله، فهي بلا شك متواشجة مع الرؤية الكلية، ودراستها إنما هي استكمال لبناء الرؤية الكلية.

لا أدعي من خلال منجزي المحدود هذا أنني توصلت إلى نتائج حتمية أو أنني استطعت أن أنجز ما يمكن أن أسميه مشروعا نقديا، فلا شك في أن هذا المنجز بحاجة إلى تطوير مستمر، وإلى استكمال في شتى صنوف الأدب وأجناسه، وآمل أن يمنحني العمر والظروف فسحة تمكنني من إنجاز ما يمكن أن يشار إليه في المنجز النقدي الحديث.

الخميس، 16 أكتوبر 2014

الكرة القماشية


كانوا كفراشات تلحق الضوء، يقبلون عليها ثم يتراجعون إلى مواقعهم الدفاعية...كانت الشمس تعكس عن الكرة لمعانا داكنا أشبه بلمعان أرض الشارع الإسفلتية... يذكر كل واحد من الأطفال كيف تبلور هذا الشكل النهائي للكرة، فبعد أن كدّسوا القماش داخل الكيس الأسود ربطوه، ثم أخذوا ما تبقى من الكيس ليعقدوا عقدة أخرى من الجهة المقابلة في الكرة، وكرروا العملية مع أربعة أكياس أخرى متقاسمين الأدوار فيما بينهم، وهاهم الآن يتعاملون مع الكرة بكل رفق؛ حين يركل أحدهم الكرة باتجاه زميله في الفريق الآخر كان يتلقاها الآخر بدفء، يوقفها تحت كعبه دون أن يضع عليها ثقل رجله كاملة، ثم يركلها برأس إبهامه الذي أشهر نفسه من بين نعل الحذاء وغطائه العلوي كمدفع:
ـ جووول
فيصيح آخر: هاي عشرين ثلاثة عشر.
ثم يصيح أحدهم من الفريق الآخر: لا ، أربعة عشر
لكن السيارة المارة من الشارع تقطع الجدل، فيصيح أكثر من لاعب: أبعدوا ...أبعدوا؛ طريق للسيارة.
عندما قرر أبو سليمان أن يحضر الكرة لابنه سليمان كان يتذكر طفولته، فتتبدى له صورته الشقية بين أقرانه  كحلم مارس تأثيره عبر السنين؛ تذكر كيف اشتاق مرة لركوب دراجة، وحين وافق أحدهم على أن يعيره دراجته لدقائق وقع بمجرد أن ركبها:
ـ لم أكن متمرسا بركوب الدراجات.
لم تكن المشكلة في رأسه الذي سالت منه الدماء بعد أن ارتطم رأسه بالرصيف، بل كانت بالانحناء الذي أصاب قطعة في هيكل الدراجة:
ـ طعجتها ... طعجتها؟
ـ سليمان أذكى مني؛ يلعب مع أولاد من ثوبه... لم أره يوما يستجدي ركوب دراجة... ما شاء الله عليك يا سليمان... والله أنك تستحق هذه الكرة وأكثر، لكن... الله يعطينا.
نادى ابنه فور وصوله:
ـ سليمان... تعال يابا تعال... احزر ماذا أحضرت لك.
أشهر الكرة في وجه ابنه وقال: كرة
لم تظهر في وجه سليمان أي ملامح تدل على المفاجأة أو الفرح، لم يطلب أن يتفحصها... أو أن يرى ألوانها المزركشة... ظلت الكرة بين يدي أبي سليمان في حين امتقع وجهه كما لو أن أحدا فاجأه بسطل ماء بارد.
قال سليمان بهدوء: محمود... ابن أبو خالد لديه واحدة، لكننا حين لعبنا فيها مرة واحدة أدمت أصابعنا التي تخرج من بين أحذيتنا... إنها صلبة حتى لو قلصت كمية الهواء التي فيها.
تهاوت يدا أبي سليمان في حين سقطت الكرة من بين يديه:
ـ روح يابا العب... روح العب
أدار أبو سليمان ظهره المنحني للأولاد الذين بدأ ضجيجهم يتصاعد من جديد في حين مشى سليمان باتجاه الأولاد شارد الذهن: ماذا لو أحضر أبي لي حذاء لا تنز منه أصابع قدمي؟ هل سأبقى ألعب مع أصدقائي هؤلاء في هذه الحال؟ سأبقى على هذا الحذاء، فربما تؤذي مقدمة حذائي الجديد أصابع أقدام أصدقائي...إن أحضر لي أبي حذاء جديدا سأبقيه للمناسبات التي لا ألعب فيها مع أصدقائي.
كان الأب يفكر في شراء حذاء جديد لابنه سليمان بينما كان يبهت ضجيج لعب الأولاد، لكن صوتهم تعالى مرة واحدة:
ـ سليمان... سليمان...سليمان...
كانت قدماه تحت عجلة السيارة... وكان رأسه ينز دمًا على الرصيف...

الاثنين، 26 مايو 2014

فرعا رابطة الكتاب في جرش وعجلون يقاطعان مهرجان جرش

لم يكن تجاوز مثقفي جرش وكتابها في مهرجان جرش ممارسة جديدة لدى إدارة المهرجان، فقد كان مثقفو جرش في كل عام يعلنون اعتراضهم ومقاطعتهم على أمل أن تتغير هذه الممارسة في العام اللاحق، غير أن القائمين على المهرجان فيما يبدو يصرون على استبعاد أبناء جرش من المثقفين والكتاب، بل يهمشونهم في مدينتهم فيقيمون لهم فعاليات محلية على هامش المهرجان، وكأن المشاركة في الفعاليات المحلية تجعل تجاوز مثقفي وكتاب جرش في فعاليات المهرجان الرسمية أمرا طبيعيا. وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك حين استبعدوا شعراء ومثقفي الجارة التوأم لجرش: عجلون، وكأنهم يتحسسون من كل من هو قريب جغرافيا من موقع المهرجان.
إننا نعرف أن رابطة الكتاب الأردنيين هي المخولة بتسمية المشاركين في مهرجان جرش، ونعرف أيضا أن الرابطة استبعدت فرعي جرش وعجلون من المشاركة في مهرجان السوسنة الشعري، ونود لو تدلي الهيئة الإدارية للرابطة بمبررات هذا الموقف المستهجن من محافظتين أردنيتين أصيلتين لا يستطيع ناظر إليهما أن ينكر أنهما كانتا على الدوام مصدراً للإلهام والإبداع.
ولعل من الواضح في هذا السياق أن هذا التهميش يقع في إطار تهميش المركز للأطراف، على أن هذه المركزية لا تنبع من مركزية ثقافية تعتمد معايير موضوعية، بل هي مركزية تأتي ضمن الدوائر المغلقة التي تحتكم إلى مجموعة من الأصدقاء الذين يقربون هذا ويستبعدون ذاك، يعني بالتعبير الدارج تحتكم إلى ما يعرف بــ(الشلة) وقد شاءت إرادة من يهيمن على هذه (الشلة) أن يكون مثقفو جرش وعجلون خارج المشهد. حتى أنهم حين فكروا في دورات سابقة بواحدٍ من الشعراء الذين ينتمون إلى هاتين المحافظتين الرائدتين ثقافيا وضعوه في أمسية هامشية بعيدا عن عمان أو موقع المهرجان الرئيسي.
ويمكن للمتقصي أن يلحظ ورود أسماء في مهرجان الشعر وفي ملتقى السرد لا تملك سيرة متميزة أو آثارا معروفة، وكان من الأولى أن تكون لجيران المهرجان مشاركة في هذه الفعاليات، فهم أصحاب آثار ثقافية بارزة، على الرغم من تجاهل (الشلة) نفسها لوجودهم الثقافي المتميز الذي تشهد له محافل كثيرة بعيدة عن تأثيرات هذه (الشلة).
نحن لا نتحدث عن محاصصة، مع أن كل ما في بلادنا قائم على المحاصصة؛ بل عن تعمد تهميش مثقفي جرش وعجلون، خاصة أن عينة من مثقفي كل المدن الأردنية مشاركون بقصد أو دون قصد من قبل المنظمين، فهل انتشر المثقفون في كل المدن غير جرش وعجلون، أم أن هناك محاولة مقصودة للتهميش؟ وتهميش مَن : "المعازيب" أي أصحاب البيت الذين يشعرون بالحرج عندما يتم إدارة الجلسات من قبل ضيوف قادمين من أماكن أخرى.
وعلى إثر هذا التهميش المقصود يعلن فرع رابطة الكتاب الأردنيين في جرش وفرع رابطة الكتاب الأردنيين في عجلون مقاطعتهما لفعاليات مهرجان جرش في هذا العام، والاحتجاج رسميا على أداء الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين، الجهة المنظمة للبرنامج الثقافي في مهرجان جرش للثقافة والفنون. كما ويعلن الدكتور شفيق النوباني، من فرع جرش انسحابه من المشاركة الوحيدة التي جاءت من خلال الفعاليات المحلية للمهرجان. وعلى إثر ما يحدث من إقصاء وتهميش وتجاهل لكتاب جرش وعجلون نطالب وزارة الثقافة بنظرة أكثر موضوعية وأكثر تمثيلاً لحياتنا الثقافية.
الموقعون
- علي طه النوباني – رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين في جرش
- د. سلطان الزغول / رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين في عجلون
الشاعر: عمار الجنيدي ، د. إسماعيل القيام، د. شفيق طه النوباني، د. علي المومني، د. يوسف ربابعة، د. مريم جبر فريحات، د. رفعات الزغول، د. جهاد المرازيق، الشاعر: حافظ عليان، الكاتب المسرحي: جمال نواصرة، القاص: ربيع ربيع، الشاعرة: ميسون طه النوباني، الروائي: حسام الرشيد، القاص: عبد الله الحناتلة، القاص: محمد علي فالح الصمادي، الشاعر: عبد الرحمن القضاة، القاص: عامر الشقيري، القاص: فارس علي الزغول، القاصة: مُسيد المومني

السبت، 25 يناير 2014

محاضرة للدكتور غسان عبد الخالق عن الغلو والاعتدال في الفكر العربي

         ألقى المفكر والناقد غسان عبد الخالق في المقر المشترك لرابطة الكتاب الأردنيين – فرع جرش وجمعية أصدقاء التنمية والاستثمار محاضرة بعنوان "صور من الغلو والاعتدال في الفكر العربي"، حيث تناول صورا من الفكر العربي منذ حركة الخوارج مشيرا إلى مواقف فكرية تبناها المفكرون العرب، فأشار في بداية محاضرته إلى موقف عبدالله بن عباس من الشعر إذ رفض تحريمه.
اتكأ الناقد عبدالخالق على الموروث الحكائي في إبراز صور من الاعتدال في الفكر العربي، غير أن خوضه في صلب الاتجاهات الفكرية غلب على المحاضرة، فتناول نموذج الإمام الغزالي على أنه نموذج معتدل على الرغم من الكثير التناولات السطحية التي لم تنصفه، فأشار إلى كتابه "تهافت الفلاسفة" على أنه دعوة لتجاوز الخطاب القائم على الفلسفة اليونانية التي اعتمد عليها معظم الفلاسفة العرب إلى خطاب فلسفي نابع من الحضارة العربية.
وفي تناول المفكر عبدالخالق لمحنة ابن حنبل والفكر المعتزلي أشار إلى السلوك السياسي الذي مارسه المعتزلة عند تمكنهم من السلطة، وعرض لمدونة تتضمن خطوطا عريضة تتعلق بتعامل الدولة مع الدين يمكن استخلاصها من فقه ابن حنبل، وتناول عبدالخالق المذهبين المالكي والظاهري في الأندلس وأشار إلى فكر ابن حزم في الأندلس من خلال كتابه المشهور "طوق الحمامة"، حيث أشار إلى السياق الذي أنتج من خلاله هذا الكتاب إذ غامر مؤلفه الشاب بمستقبله السياسي في سبيل ترويج أفكاره عن موضوع الحب في مجتمع تغلب عليه المحافظة.
وقد تبع المحاضرة حوار مطول مع الحضور الذين تفاعلوا مع القضايا التي أثارتها المحاضرة، وكان الدكتور شفيق طه النوباني قد استهل المحاضرة بالإشارة إلى الإسهام الثمين الذي سيقدمه الدكتور عبد الخالق في سلسلة المحاضرات التي تعقدها الرابطة والجمعية، إذ تنبع أهمية هذه المحاضرة من أهمية القائم عليها بوصفه مفكرا تناول الموضوعات الفكرية بأبعاد نقدية، كما تناول موضوعات النقد بأبعاد فكرية، فظهرت في شخصيته الثقافية ملامح الناقد والمفكر.