الجمعة، 14 نوفمبر 2014

في طريق الكتابة


د.شفيق طه النوباني
إذا كانت تجربة الأديب لا تنفصل بالضرورة عن الحياة، فإن تجربة الناقد لا تنفصل بالضرورة أيضا عن الحياة والأدب وفلسفتيهما، فالأدب هو التجربة الحميمة المتماسكة في تكوينها الداخلي، والنقد هو التجربة التي تتعايش مع التجربة الأدبية محاولة أن تحيط بها من خلال كشف تماسكها الداخلي الذي يمثل بطبيعة الحال وجها من وجوه العالم في خارج النص. وهذا ما يفرض بطبيعة الحال الالتفات إلى خارج النص بمقدار ما يفرض النص نفسُه تناوله الداخلي.
بنيت هذا التصور في النقد بعد أن انبهرت لوهلة بمصطلحات الحداثة ومفاهيمها، فانحصرت في محاولات فهم البنيوية والأسلوبية والشكلانية، غير أن توجهي فيما بعد إلى دراسة المنهج الواقعي من خلال نتاج الدكتور عبد الرحمن ياغي نقلني إلى حيز مختلف تماما في التناول النقدي، حيث أنجزت هذه الدراسة في مرحلة الماجستير بإشراف الدكتور نايف العجلوني، وقد منحني التواصل مع الناقد الدكتور عبد الرحمن ياغي حيوية أكبر أثناء إنجاز الدراسة، إذ أسهمت محاوراتي معه في إثراء بحثي.
لقد قادني بحثي في نتاج ياغي إلى تغيير جوهري في وجهة نظري النقدية، فالأدب لا يمثل منحى جماليا حسب أو بنية لغوية مغلقة، بل يمثل موقفا فكريا لا يستبعد تركيب المجتمع ومكوناته. ومع أنني لم أسع بعد دراستي لنتاج ياغي إلى تطبيق المنهج الواقعي بأدواته الماركسية بحذافيرها في مراجعاتي التطبيقية إلا أنني لم أستبعد خلفية النص الاجتماعية والثقافية فضلا عن رؤيته التي تأخذ بعين الاعتبار المعطى الجمالي في داخل النص كما تتجه إلى خارجه وفق اعتبارات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، حيث يؤدي البعد الجمالي والبنيوي دوره العميق في توصيل الرؤية.
ولا يعني هذا التوجه إلى رؤية النص تجاوز المناهج الحداثية أو حتى اعتبارها بعيدة عن حضارتنا وثقافتنا، فهذه المناهج وليدة اتجاهات فلسفية عميقة لا يمكن تجاوزها، ومهما اختلفت الثقافات يبقى المشترك الإنساني قائما فضلا عن ذلك المشترك المتعلق بالطبيعة الأدبية، غير أن ما ينبغي الالتفات إليه أن هذه الاتجاهات الحداثية تبقى قابلة للنقد من منطلقات متعددة لعل أهمها ذلك المنطلق الفلسفي الذي نبعت منه.
كان الدكتور شكري عزيز الماضي في مادة "نظرية الأدب" التي انتظمت فيها في مرحلة الدكتوراه قد طرح عددا من الأسئلة المفتاحية من مثل: ما الأدب؟ ما علاقة الأدب بالحقيقة؟ وما علاقته بالسياسة؟ وقد جمعت إجابتي عن هذه الأسئلة في مقالة سبق أن نشرتها في الرأي الثقافي، حيث وضعتني هذه الأسئلة أمام تحديد أكثر دقة فيما يتعلق بتناولي النقدي للأدب، آخذا بعين الاعتبار أن هذا التناول ينبغي ألا يبتعد عن طبيعة الأدب الذي يتواشج مع العلوم الإنسانية على تنوّعها كما أنه لا يبتعد بطبيعة الحال عن الواقع والحياة، بل إنه نابع منها أصلا.
الأدب رؤية. هذا ما توصلت إليه مستهديا بآراء عدد من النقاد الذين نظروا إلى الأدب من وجهة النظر هذه. إنها رؤية تعبر من خلال اختيارات الأديب في عناصر عمله الأدبي عن وجهة نظره في شتى مجالات الحياة. وهي رؤية تقترب من الحدس، فهي لا تتوصل إلى ما تتوصل إليه بطريقة علمية بحثية.
لا تنفصل المنهجية أو تكوين الرؤية النقدية لدى أي كاتب أو ناقد عن تفاعله البحثي مع أساتذته، وقد كان لدراستي في ثلاث جامعات أردنية دور في تحقيق تعامل مع أكبر عدد ممكن من الأساتذة، فقد تتلمذت في مجال نقد الرواية مثلا على يد نخبة من أهم الأساتذة في هذا المجال، كالدكتور إبراهيم السعافين، والدكتور شكري الماضي، والدكتور إبراهيم الفيومي رحمه الله، والدكتور نبيل حداد، والدكتور محمد الشوابكة، والدكتور إبراهيم خليل الذي يعد نقد الرواية واحدا من اهتماماته. ولا يخفى على الدارس في هذا المجال أن لكل من هؤلاء منهجيته ورؤيته وإن كان هناك الكثير من التقاطعات بين منهجياتهم. وما زلت أذكر أول محاولة تحليلية للرواية حين أقدمت على تناول روايتي "المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة" لحنا مينا مستهديا بالمادة العلمية التي  تلقيتها لدى الكتور إبراهيم الفيومي، كما تناولت عددا من الروايات لدى الدكتور إبراهيم السعافين في مرحلة الدكتوراه، وأحسب أن أدواتي النقدية قد تطورت في هذه المرحلة نتيجة الممارسة، ونتيجة تنوع مصادر المعرفة.
يقول إدوين موير: إن "الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يحدثنا عن الرواية هو الرواية" منطلقا في هذا القول من تناوله للحبكة في هذا الجنس الأدبي، وقد وجدت في هذا القول واحدا من أهم الأسس التي يمكن الانطلاق منها في تناول الرواية، إذ لا يمكن تجاوز الأحداث التي ترتبط بطبيعة الحال بباقي عناصر الرواية مما يسهم في إبراز الرؤية الكلية لها.
والرؤية في العمل الأدبي لا تقتصر في دلالتها على مقولة الأديب الأساسية، بل تتعدى ذلك إلى الخلفية المعرفية والثقافية والاجتماعية والسياسية والجمالية التي انطلق منها الأديب في توصيل مقولته تلك، حيث تتضافر اللغة وبقية العناصر في تقديم هذه المقولة، كما يتم تبئير عنصر ما في العمل الأدبي يكون أقدر على توصيل هذه الرؤية، فالرواية التي تحتفي بالتحولات التي طرأت على الأجيال تقدم عنصر الإنسان وتجعله بؤرتها، والرواية التي تحتفي بمكان ما تقدم هذا العنصر وتجعله في بؤرتها، ومن المعروف أن الروايات البوليسية مثلا تركز على عنصر الحدث لما فيه من تشويق يجذب القارئ للقراءة أكثر.
هذا هو النهج الذي اتبعته في قراءة الروايات التي تناولتها في مقالات نشرتها في المجلات والصحف، وهذا هو النهج الذي اتبعته في دراستي لأربع عشرة رواية في أطروحة الدكتوراه الموسومة ب"عمان في الرواية العربية في الأردن"، إذ اتجهت بإشراف الدكتور شكري الماضي إلى دراسة الرؤية في كل رواية من هذه الروايات، واتجهت إلى دراسة البناء بما لا ينفصل عن الرؤية، ثم تناولت أبعاد الأمكنة المختلفة للمدينة بما ينسجم مع المبحثين السابقين.
ولم تبتعد قراءتي لعدد من المجاميع القصصية عن التوصل إلى الرؤية من خلال هذه الأدوات نفسها، غير أن التوصل إلى رؤية القاص سيكون بطبيعة الحال من خلال نصوص قصيرة نسبيا، مما يجعل إمكانية الاستعانة بنصوص متعددة للتوصل إلى الرؤية الكلية أمرا ضروريا في الأغلب، وإن كان هذا الأمر مهما أيضا قي دراسة الرواية إلا أنه يبدو ضرورة ملحة في القصة القصيرة.
وقد حاولت من خلال غير دراسة للأدب الشعبي أن أستكمل توجهي في دراسة الأدب، غير أن ما يجب التنويه إليه في هذا المجال أن الرؤية في هذا النوع الأدبي تنطلق من الضمير الجمعي الذي يحتكم إليه سلوكُنا بوصفنا منتمين إلى ثقافة واحدة، ما يجعل الرؤية هنا رؤية شعب أكثر من كونها رؤية أديب أو حكواتي، وقد حاولت في دراستي للهوية القومية من خلال سيرة "حمزة العرب" أن أكشف عن ذلك الميل الشعبي لتجديد الهوية القومية خاصة فيما يتعلق بالنظرة إلى السلطة والحكم، وحاولت أن أتوصل إلى مفهوم الدين ومكوناته في السيرة الشعبية من خلال دراسة "تغريبة بني هلال".  كما حاولت أن أكشف عن نقاط الالتقاء بين الرؤية الشعبية ورؤية المثقف االمعاصر من خلال دراسة التعالق النصي بين سيرة "الزير سالم" وقصيدة أمل دنقل "أقوال جديدة عن حرب البسوس".
 لم يكن ارتضائي لدراسة الرؤية في الأدب معزولا عن الموقف الحضاري للأمة العربية أو أبعاد هذا الموقف في شتى المجالات، فلعل أمتنا ما زالت بأمس الحاجة إلى تقبل الرؤى المتنوعة وتسويغها وتفهم خلفياتها الفلسفية والفكرية بما لا يزعزع معنى الهوية ولا ينقلب عليها، ومن هنا لم أحاول أن أتدخل في أي من الرؤى التي قدمتها إلا بما يتناول الثغرات أو التناقضات في داخلها، أما الأدوات التي يعتمد عليها الأديب في تناوله، فهي بلا شك متواشجة مع الرؤية الكلية، ودراستها إنما هي استكمال لبناء الرؤية الكلية.

لا أدعي من خلال منجزي المحدود هذا أنني توصلت إلى نتائج حتمية أو أنني استطعت أن أنجز ما يمكن أن أسميه مشروعا نقديا، فلا شك في أن هذا المنجز بحاجة إلى تطوير مستمر، وإلى استكمال في شتى صنوف الأدب وأجناسه، وآمل أن يمنحني العمر والظروف فسحة تمكنني من إنجاز ما يمكن أن يشار إليه في المنجز النقدي الحديث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق