الأحد، 30 ديسمبر 2012

حمّى في ليلة ماطرة



للتو كان اللون الأسود يغطي عينيَّ دون أن أتمكن من سماع أي صوت، لكن الألوان الآن تبدو على حقيقتها؛ ها هو الجدار السكري يطفو على عيني ويمنع نظري عما وراءه، وتبدو لي الآن الأصوات متداخلة متكسِّرة، وقد خفَّت ارتعاشتي بعد أن ألقوني على هذا السرير.
- الممرضة؟
- ستأتيك الممرضة بعد قليل.
لاح أثناء الظلام طيف بياض ممرضة؛ كانت تضاحك شابًا حاملة الإبرة في يد وقطعة من الشاش في يدها الأخرى.
جاءت الممرضة بلباسها الأبيض.
- جيد أن تتذكروا مريضًا.
- بالكاد نفحص كل مريض في الطوارئ.
- نعم … نعـــــ ...
لكنها وضعت ميزان الحرارة في فمي. غابت وقتًا ثم عادت.
-: الحرارة مرتفعة؛ أربعون درجة مئوية، لا بد من كمادة، سأنادي الطبيب.
وضعت كمادة بيضاء على جبهتي؛ كانت باردة، وكان جسدي مرتعشًا.
أصوات ترتفع في المستشفى؛ حمالة تُجرُّ، صوت أنين يتعالى، أطفال يبكون، وأصوات العاملين: أحضر إبرة أنسولين. هات كيس جلوكوز. كَسْرٌ في الرجل اليمني. صوت ضحكة نسوية ترتفع، وصوت المطر والرعود يتداخل مع هذه الأصوات التي ما عدت أميزها.
هناك بقعة دم على سريري، وبقع أخرى لا أستطيع تمييزها. هذا الشخص على السرير المجاور أعرفه. أعرف وجهه أو أنني أعرف تكتّله الشحمي؛ كان يرتعش، لكنه  نظر تجاهي:
- خير إن شاء الله.
- برد وارتعاش، وربما حرارة.
برد وارتعاش؛ كان البرد يكوِّرني، والمطر يضرب جسدي، وكان المنتظرون صفًا منتظمًا، ثم جاءت الحافلة، فإذا بهم سيل يصب في بابها.
قال السائق: مهلاً … لينزل الركاب.
نزل الركاب محاولين اختراق هذا السيل، ونزلت سائحة تصيح: شكرًا … شكرًا. وكانت ملابسها الصوفية ضيقة، وكانت رايات ترتفع، وكوفيات حمر وأخرى سود وأخرى بيض ترتفع، وكانت الجباه السمر تغنّي للحرية. وكان المطر ينزل، ينزل بلا هوادة .
- هل سنلحق باصًا اليوم؟
- ستخف الأزمة ... ستخف.
- ستخف الحمّى إن شاء الله، وستخرج بالسلامة.
- إن شاء الله … إن شاء الله … المطر يشتد هذه الليلة.
- خير … خير من الله عزّ وجل.
- جاء الطبيب؟
- نعم هو الطبيب.
- بماذا تحس؟
- أحس بالبرد … إنه برد شديد .
- البرد شديد يا حبيبتي … لماذا هذه الملابس الخفيفة ؟
كانت الرياح تشد وشاحها فتكشف عن عنقها الثلجي النحيف وكانت أطرافها تبدو مرتعشة خلف لباسها الشفاف.
- لماذا لا نجلس في مطعم أو مقهى؛ ليس شرطًا أن نشتري شيئا؛ يكفى أن نتَّقي شرَّ هذا البرد.
- البرد أجمل؛ وأنا أحب البرد، أما أنتَ بحسِّكَ الدافئ فلا تطيق البرد؛ وأنا أحب منظرك مرتعشا.
- ألهذه الدرجة تصل السادية فيك؟! لكنَّكِ مرتعشة؛ إني ألاحظ ذلك.
- لا ... أنا لا أرتعش.
- كيف وأنت تلبسين هذا اللباس الخفيف؟
- البرد سبب هذه الحمى، والحمى سبب ارتعاشك. لا شك أن حرارتك الآن ستخف. لقد خفَّت. اصرف هذا الدواء من الصيدلية وبالشفاء.

خرجت من المستشفى. كانت الأصوات تخفُّ شيئًا فشيئًا، إلا صوت الضحكة النسوية ينطلق متعاليًا على كل هذه الأصوات، وكنت أحس ارتعاشتي تزداد شيئًا فشيئًا، وكان المطر يهطل .

23 / أيلول / 2000