الاثنين، 16 أبريل 2012

مصلح

ماذا أسميه؟ إشكالية عارضة، أما الإشكالية الحقيقية ففي تكوينه وميكانيزماته. اسمه مصلح، والطلبة يعرفونه بالبحر، أما بين أهل قريته فاسمه المخ. استوحوا ألقابه من علمه الغزير، وفيض عقله الوفير. جمع العلوم من شتى الأصناف والبقاع والأزمان، فمن بلاغة الجاحظ إلى أدب ابن العميد إلى نحو سيبويه حتى ثنائيات سوسير وتحويلية تشومسكي مرورا بالنقد النسوي وسرديات جنيت... والحقيقة أن معرفته لم تبق أسيرة الكتب، فقد تعمقت ثقافته بتطوافه في بلاد العرب والعالم، فمن مؤتمر في القاهرة إلى آخر في تونس حتى نيويورك ونيودلهي. لقد طاف البلاد متسلحًا بثقافة الأجداد مستهديا بنور علمهم الوقاد.
اختلفت آراء الطلبة في مدى وسامة البروفسور مصلح، فقد اعتقدت إحدى الطالبات أن لقب البحر جاء نتيجة ضخامة كرشه، غير أن صديقتها ردتها إلى أصول هذا اللقب، وحاولت أن تبين لها مدى وسامة الدكتور مصلح، فنظارته التي غطت عدستاهما جزءًا من وجنتيه تناسبت مع وجهه الواسع، كما أن بذلاته التي يختارها غطت تكرشه، بل إن الفتاة حاولت أن تثبت جماليات التكوين الجسماني للإنسان العربي من خلال شكل الدكتور مصلح، فوجهه الحنطي يعكس جمال بيادر القمح في بلادنا، وعيناه العسليتان تمثلان العينين النموذجيتين للإنسان العربي، أما الندوب التي ظهرت على يديه فتعكس معركة العربي من أجل التحرر والخلاص من الإمبريالية. قالت: إن علمه واسع بسعة البحر؛ ولهذا أطلقت عليه هذه التسمية. إنه العالم البحر.
اتخذ الدكتور مصلح مكانه أمام طلبته في أول محاضرة له هذا الفصل، كانت عيون الطلبة مشدودة إليه، وكانت قلوبهم تخفق إذا ما لاقت عيونهم عينيه. رحب الدكتور مصلح بطلبته وقدم لمادته: سنغرف في هذا الفصل من بحر العلم، وسوف نجوب في عالمه بقدر ما تتيح لنا فسحة الزمن... أنت يا سمير. درستك قبل هذه المرة.
ـ نعم دكتور.
واستكمل الدكتور مصلح حديثه متأملا ملامح الطلبة حينا ومتفكرا في تراكيب جمله حينا آخر، لكن عينيه وقعتا على طالب جديد.
أثار خالد في نفس الدكتور مصلح ملامح تراثية غير موغلة في القدم، فقد خف شعره الأبيض في صدغيه وقفا رأسه فاضحًا صلعته الحنطية اللامعة لافتا الرائي إلى بروز وجهه. التقت عينا الدكتور مصلح بعيني خالد فابتسم خالد بشفتيه العريضتين البارزتين مذكرا المدرس بطرابيش العثمانيين، فنادى عليه: أنت... العصر التركي، ألم تستوعب طريقة الكلام للآن... ما زلت تحاول أن تبرمج نفسك على استيعاب العربية الفصيحة؟
تفصد العرق من جبين خالد، ولم يجب. تذكر كيف امتنع عن الدراسة من أجل استكمال دراسة إخوته فيما تأخر هو ليدرس في المرحلة التي يدرس فيها أبناؤه، حضر محاضرتين بعد ذلك وقد التصق به اسم العصر التركي خلالهما، لكنه غاب عن الجامعة كلها بعد ذلك إذ اكتشف أنه يضع أمواله في المكان الخطأ: لعل أبنائي أحق بها.
كان الدكتور مصلح صاحب منهج في إلقاء محاضراته، فهو يرى أن العلم ليس في الكتب حسب، بل يتمكن من خلال التجربة المعيشة، وهذا ما جعله يسرد قصصه الشائقة عن أسفاره وبعض المواقف التي مر بها. وعندما سرد حكاية مرت به حين كان مساعد العميد دارت في ذهنه فكرة: ألم يحن لي أن أكون وزيرًا بعد أن تسلمت كثيرًا من المناصب في هذه الجامعة وفي غيرها؟ لعل المدخل الأفضل من أجل ذلك المقالات الصحفية. عمود ثابت في جريدة "الباب".
تابع الدكتور مصلح نشر المقالات يوميًّا في الصحف، وكانت فلسفته تتلخص في ثقافة السلام: لقد آذانا الغرب كثيرًا بالاستعمار، وآذانا الكيان الصهيوني كثيرًا. نزفت دماء كثيرة. ألم يحن الوقت لوقف هذا النزيف؟ إنّ وقف النزيف يقتضي قدرًا من التحمل ومقاومة حركات المقاومة.
حاوره أحد مريديه من الطلبة: أنا أتابع مقالاتك باستمرار، ألا ترى أن مقاومة حركات المقاومة موقف يشوبه قدر من التطرف؟
تشنج الدكتور مصلح برهة، لكنه سرعان ما استعاد مظهره الطبيعي: وهل يقابل التطرف إلا بتشدد يقصم تطاوله ويضع حدًّا لعنفوانه؟
لقد أدرك طلبة الدكتور مصلح مدى نرجسيته واعتداده الكبير بذاته ومحافظته على اتزانه في الأغلب، ومن ناحية أخرى لم يكن مصلح يرى في طلبته قدرات جيله، ما جعل الاستخفاف يغلب على أسلوب تعامله، قال: يخسر من لا يتوصل إلى النتائج التي توصلت إليها في البحث، والخسارة لن تكون في العلامة، بل ستكون في مستقبلك العلمي، أذكر أن الروائي "خالد عاصم" عرض عليّ روايته "المتحابون" قبل أن ينشرها، وقد اقترحت عليه إجراء تعديلات في حبكتها لكنه لم يستجب. ها هو انطفأ ذكره بعد أن جاد فكره بروايات سابقة كان قد استجاب فيها لنصائحي. لم يعد له مكانة بين أدباء عصره.
لم يوقف استرسال الدكتور مصلح إلا طرق طارق على بابه، أشار إليه مستأذنا بالدخول فأذن له، سأله: أهذا هو الكتاب الذي طلبت مني العودة إليه في بحثي؟ أمسكه الدكتور مصلح واطلع على عنوانه وقال: نعم، هذا هو، إنه كتاب مهم سيثري بحثك.
ـ لكن هذا كتاب في الفيزياء، اقرأ مقدمته، وانظر إلى الحسابات التي فيه.
لم يبد الدكتور مصلح أي استهجان: ألا تعرف أهمية الربط بين العلوم الإنسانية والعلوم البحتة؟! اكتفى الطالب بهذا الاستفزاز وطلب منه أن يوقع ورقة تتوقف عليها إجراءات البحث الرسمية. وبينما هو يخرج الورقة من حقيبته وقع الكتاب لصق قدم الدكتور مصلح. لم يحاول أن يحمل الكتاب ويعطيه للطالب، ولم يحرك كرسيه للابتعاد عن مكان سقوطه. نظر إلى الطالب وهو يحدودب لتناول الكتاب من عند قدميه. كانت ابتسامة خفية ترتسم على شفتيه، فيما خطر في ذهنه قول الإمام مالك: العلم يؤتى ولا يأتي.
كان الدكتور مصلح قبلة الزائرين ومحط أنظار الباحثين، يأتيه طلبة العلم طامحين إلى علمه المثمر ورياض فكره المزهر، لكنه لم يتصور يومًا أن يأتيه علماء من قارات أخرى طامعين بعلمه؛ استأذنت إحدى موظفات الجامعة بالدخول إلى قاعة الدراسة وكان برفقتها رجل تبدو عليه الملامح الأجنبية: هذا الدكتور سليموفاليموفيتش مدرس في قسم الدراسات الشرقية في جامعة موسكو. رغب في حضور محاضرتك للإفادة منك.
ـ أهلا بكم، تفضلوا.
لم يبد الدكتور مصلح أي مبالغة في الترحيب، فقد كان كعادته رابط الجأش هادئا لا تهزه نوائب الدهر ولا تفرحه الأحداث الجليلة، لكنه أبدى اهتماما أكبر بالاستحواذ على الكلام، فتكلم بلغة كأنها سيل دافق، وحين أحس بأنه لا يشرك الطلبة في الحديث تذكر خالدًا: أين هو...؟ حاول أن يتذكر اسمه لكنه لم يستطع: أين هو العصر التركي؟ أجابه أحد الطلبة: لقد انقطع عن الدراسة.
ـ آه...
ألقى سؤالا على الطلبة حاول من خلاله أن يسبر آراءهم فيما يقول، ثم عاد لاستكمال موضوعه دون أن يتيح لهم فرصة الإجابة. استأذن الدكتور الروسي للخروج، وحاول الدكتور مصلح أن يجامله أثناء ذلك: نحن نقدر لكم اهتمامكم بلغتنا.
عاد الدكتور مصلح إلى المحاضرة وقد خفت حماسه بعد خروج الزائر الروسي؛ بطؤ كلامه وتهاوت كلماته أمام طلبته ثم طلب منهم المغادرة قبل انتهاء وقت المحاضرة، وحين راجع نفسه من أجل إيجاد تفسير لهذا التهاوي لم يستطع التوصل إلى نتيجة. 
وضع الدكتور مصلح صورة للبحر خلف مكتبه، ورأى نفسه مبحرا في أرجائه الواسعة: ما أنا إلا مبحر على سطحه الواسع، أحاول أن أغوص في أعماقه السحيقة. وفي ليلة استيقظ من النوم فزعًا، فسألته زوجته عن حلمه، فقال إنه رأى نفسه يغرق بعد محاولات عديدة للعوم في بحر ليس له قرار. فكر في حلمه محاولا تحليله: هذه الصورة هي السبب. فأزالها عن الجدار: هل يعوم البحر في البحر؟ لا حاجة للبحر عندي، فأنا البحر الذي لا يظمأ.
كانون الأول/2010

منظومة القيم في مسلسل شيخ العرب همام

تستحق الأعمال الدرامية التي تعرض على الشاشات الفضائية اهتماما أكبر في الوسط النقدي والثقافي، فهي أعمال تنال متابعة واهتماما واسعا من المجتمع بشرائحه المتنوعة،  ومن المفروغ منه أن هذه الأعمال تمارس تأثيرا كبيرا في المجتمع إثر هذه المتابعة. وقد تم تناول عدد من هذه الأعمال في الصحف والمجلات الثقافية والفنية بالنقد الإيجابي والسلبي، بل إن بعضها نال من النقد الإيجابي أو السلبي أكثر مما تستحق. 
سوف أتناول في هذه المقالة عملا دراميا يستحق من المشاهد أن يجلس أمام التلفاز ساعة على مدى واحد وثلاثين يوما، فهو عمل يأسر المشاهد بأحداثه وشخصياته المتقنة وتناوله لملامح المجتمع واستلهامه لأحداث التاريخ، بل إنه يعاين معاينة دقيقة للعقلية العربية وعمقها الثقافي الذي مارس تأثيره الجوهري على حركة التاريخ وتفاصيل الحياة في المنطقة.
عرض مسلسل "شيخ العرب همام" على فضائية أبو ظبي في شهر رمضان، وهو يتناول محاولة زعيم صعيدي مشهور للسيطرة السياسية على منطقة الصعيد في مصر إبان حكم المماليك في القرن الثامن عشر دون أن يغيّب شكل الحياة الاجتماعية في هذه المرحلة، ولعل محاولة توصيل العمل لشكل الحياة هذا هو الذي جعله يتجاوز تفاصيل التاريخ، بل جعله يتجاوز أيضا بعض المنقول تاريخيا عن شخصية شيخ العرب همام.
معركة شيخ العرب مع المماليك هي معركة السلطة التي يحاول كلا الطرفين الاستحواذ عليها في مناطق الصعيد، وهي معركة لا تتوقف في أدواتها على أدوات الحرب بل تمثل القيم قوامها، بل إن أدوات الحرب الحقيقية لم تتم إلا في آخر حلقتين حيث خسر جيش شيخ العرب أمام جيش علي بك المملوكي في أسيوط، وقد انتهت هذه الحرب نهاية موجعة لشيخ العرب، إذ أدت إلى موته قهرا وكمدا. إنها نهاية لا تحاول تجميل الواقع والتاريخ، بل تعبر عن سيرة المنطقة التراجيدية بكل ما فيها من محاولات مجهضة للتغيير.
يمثل شيخ العرب همام منظومة قيمية لا تقترن بالصعيد المصري حسب بل ترتبط بالعقلية العربية بكليتها، فقد جاءت رئاسة همام لقبائل هوارة في صعيد مصر بحكم الوراثة، وقد استطاع أن يقوم بدور الشيخ الذي يتمثل قيم مجتمعه بروح متسامحة، فهو يجلس كل صباح ليحل مشاكل الناس منطلقا في ذلك من إحساسه بالمسؤولية المباشرة عنهم، وهو يقدر أهمية الأقرباء من أبناء عمومته إذ جعل مشورته فيهم، لكن تقديره لأبناء عمومته لم يجعله يخرج عما يمليه عليه انتظامه في القيم التي ترسخت خلال حقب تاريخية موغلة في القدم، فعلى الرغم من اعتراض ابن عمه إسماعيل على حماية همام لقاطع الطريق جابر الذي أحب ابنته ليلى وتصميمه على قتله إلا أن شيخ العرب منع ذلك وزوّجه من إحدى الجواري إذ رأى أن جابرا لم يمس شرف العائلة حين أحضر ليلى إلى أهلها دون أن يخطفها.  
لم يتوقف تأثير مفهوم الإجارة على الإسهام في التفريق بين همام وابن عمه إسماعيل، بل أسهم أيضا في توسيع الهوة بينه وبين المماليك إذ أجار من يهرب منهم إليه في الصعيد نتيجة خلافاتهم الداخلية التي تستوجب أن ينفذ المستضعفون من كبرائهم بأرواحهم. فالتزام شيخ العرب بمبادئه وقيمه لم يصب في مصلحته أمام المماليك  بل وضعه في موقف أكثر تشددا، بل إن إجارة علي بك الكبير الذي استجار به بعد أن انقلب عليه أحد كبار المماليك لم يشفع لهمام أمامه ولم يجعله ينجو من محاولاته للقضاء على قوته في الصعيد.
في مقابل هذا الالتزام الكامل بالمبادئ والقيم لدى شيخ العرب نجد تجردا كاملا منها لدى المماليك، وهذا لا يعني بالطبع انعدام وجود منظومة قيمية لدى هذه الفئة من الناس، لكن هذه المنظومة لم تتشكل بما يكفي لترسخها في دواخلهم، فهم مجموعة من العبيد الذين تحوّلوا إلى أسياد، وتحولت على إثر ذلك قيمهم من قيم العبيد إلى قيم الطبقة الحاكمة، لكن هذه القيم الجديدة لم تمتلك أرضية تاريخية واجتماعية راسخة تتناسب مع طبيعة تكوينهم الاجتماعي من جهة ومع طبقتهم الاجتماعية الجديدة من جهة أخرى.
لقد أشار محمد أبو الذهب- أحد شخصيات المماليك- إلى مفهوم الأستذة لدى المماليك في مقابل الوراثة لدى عرب الصعيد، فالمملوك يعدّ أميره أستاذه الذي يتلقى منه أصول السياسة والحياة، كما أن كبار المماليك يتعاهدون فيما بينهم عهد الوفاء الذي يستوجب عدم خيانة أحدهم لآخر، لكن هذا العهد لا يصمد أمام خلافاتهم ومحاولات كل منهم المستمرة للسيطرة على السلطة، وفي مقابل ذلك نجد في الصعيد نوازع أقل بكثير للسلطة كما نجد انصياعا غالبا لمراد شيخ العرب همام.
لقد استطاع علي بك من خلال افتقاره إلى منظومة قيمية راسخة ومن خلال إدراكه لطبيعة قيم الصعيد المصري أن يتغلب عليهم، كما أن ترسخ القيم لدى شيخ العرب لدرجة لم يستطع من خلالها تصور أن يتجرد منها علي بك إلى هذا الحد لم يمكنه من التغلب عليه، إذ لم يتخيل أن ينقلب عليه بعد أن أجاره ومكنه من استعادة منصبه في القاهرة، هذا على الرغم من كون شيخ العرب لا يفتقر إلى الدهاء المعروف لدى العرب في تراثهم السياسي، لكنه دهاء يبقى في ذلك الإطار القيمي والعرفي، وهل كان دهاء عمرو بن العاص في موقف التحكيم الشهير إلا دهاء نابعا من هذا العرف إذ التزم كلا المحكمين بالكلمة، فسادت دولة الأمويين بناء على هذه الكلمة؟
ولا أرغب في هذه المقالة بالتوقف على ما يمكن أن نخلص إليه في تعامل العقل العربي مع الآخر في هذه المرحلة التاريخية إذ يبدو ذلك بدهيًّا في ظل هذا التناول، لكنني سأتوقف عند بعض إفرازات المنظومة القيمية السائدة، فقد انتهت ليلى ابنة إسماعيل إلى الجنون نتيجة إصرار أبيها على عدم تزويجها ممن لا تتوافر فيهم السمات التي تقتضيها الطبقة التي ينتمي إليها إسماعيل، فجابر الذي أحبها رفض إسماعيل أن يزوجه إياها لأنه قاطع طريق مقطوع النسل، بل بقي مصمما على قتله حتى أوصى بقتله برصاصة لم تصبه في حين أصابته رصاصة المماليك بينما كان يغني لجنود الصعيد في المعركة، كما رفض أن يزوجها من أمير المماليك في الصعيد المتحالف مع الشيخ همام لكونه عبدا متجاهلا بذلك المركز الذي يحظى به الرجل، هذا مع أن زواجها من قريبها أحمد الهواري لم يكن مثاليا فقد هربت من بيته نتيجة اعتدائه المتكرر عليها بالضرب بدعوى أنها عاشقة.
لا مجال في هذه المنظومة القيمية لتغير المكانة، فالعبد عبد والسيد سيد، واجتهاده لن يشفع له من أجل تغيير مكانته الاعتبارية، بل إن هزيمة هوارة أمام المماليك ودمار عاصمة حكم شيخ العرب "فرشوط" ومقتل إسماعيل لم يسمح لجابر بأن يحقق حلمه مع ليلى، ففي أحد المشاهد الأخيرة في المسلسل صادف جابر ليلى في وسط الدمار الذي خلفته مدافع المماليك، وبعد أن حسب أنه حقق حلمه خرجت إليه أمها ومجموعة من النساء وفي أيديهن المشاعل، وأبعدنه عن ليلى.
هل كان التصوف ناجما عن هذا الثبات القيمي خلال تغيرات الزمن والتاريخ؟ إنه سؤال لا يقتصر في أهميته على هذا العمل الدرامي المتميز، بل هو سؤال يرتبط بتاريخنا الاجتماعي كله. وقد وظف هذا العمل الدرامي الأحلام بصورة لافتة بوصفها أداة من أدوات تحقق الحدث، كما جعل شخصية الشيخ سلام أخي الشيخ همام شخصية رئيسية لا تقل في أهميتها عن أي شخصية أخرى، وهي شخصية تتمتع بحس روحي عال ولا تمتلك قدرات اجتماعية ذات أهمية، فقد أسهم الشيخ سلام في إنقاذ همام من القتل بفضل هذا الحس الروحي، كما أنه أرشد هماما إلى الوسيلة التي يمكن من خلالها أن ينجب الصبي بعد انقطاع عنه، وما أن انصاع همام لنصيحته إذ ذهب إلى أحد مقامات الأولياء ومرت به مغامرة صوفية حتى عاد إلى بيته وزوجته حامل ببكر صبيانه درويش.
لعل الحقيقة هي ما يراه الإنسان راسخا في ذهنه غير قابل للتحول أو التغيير، فما بالك إذا كان راسخا لدى مجتمع بكامله، ألا يصل الالتزام بالقيم هنا إلى درجة الإيمان الصوفي. ومهما كان الأمر فإن منظومتنا القيمية هي حقيقتنا التي لن تنفصل عنا وإن نظرنا إليها نظرة تأملية من الخارج فلن تنفصل عنا لأنها في داخلنا، وإن ابتعدنا عنها قليلا فرواسبها فينا قائمة خلال أجيالنا الممتدة، هذا لأنها نحن. هذا الثبات القيمي أنتجنا وأنتج بكائياتنا التاريخية التي لم تنته بعد. ليست نهايات تراجيدية، بل نهايات بكائية تجعلنا نعيد النهاية كلما بدأنا، إنها بكائياتنا التي نحب قراءتها لأنها تتضمن جمالها على الرغم من قصمها لظهر تاريخنا.
لقد انتهى هذا العمل الدرامي بصورة همام ميتا، وإلى جانبه تلك المرأة التي فقدت أبناءها الثلاثة في الحرب فلم تبكهم بقدر ما بكت بيوت العز عندما تخرب: "واه على بيوت العز لما تخرب".

لماذا كرة القدم؟

حين أرى الحماس الشديد الذي يقع فيه الناس نتيجة متابعتهم لكرة القدم في كأس العالم يراودني سؤال قد يبدر في ذهن أي متابع لكرة القدم بصورة عامة أو لكرة القدم في كأس العالم خاصة: لماذا كرة القدم، ولماذا كأس العالم؟
أرى أن مباراة كرة القدم صورة مصغرة للحرب، وهل يستهجن هذا التشبيه عندما يكون الملعب يقرب في مساحته من العشرة دونومات، إنه ملعب مثل ساحة حرب تخلو من المرتفعات والمنخفضات بحيث يغدو اللاعبون مكشوفين للجمهور.
يبدو ملعب كرة القدم ذا دور كبير في تحقيق هذه الجماهيرية، فهو يتيح المجال لأكبر عدد من الجماهير لكي يحضروا المباراة الواحدة، ولعل في ذلك بعض ما يسوغ انتشار الشاشات الضخمة التي تعرض المبارايات أمام جمع غفير من الناس ولا سيما في المدن الكبيرة.
لا نجد في مباراة كرة القدم أوجها مغطاة كما هو الحال في كرة القدم الأمريكية مثلا، أو أوجها تغوص تحت الماء كما هو الحال في رياضة السباحة مثلا، بل  نجد ملامح الفرح والنشوة والحزن في أوجه اللاعبين الذين يتوجهون إلى الجمهور بروح من حقق نصرا عظيما لبلاده، ولا شك في أن لذلك دورا كبيرا في تحقيق تواصل عاطفي إنساني بين اللاعب والجمهور، فكيف تتعاطف مع لاعب فرح بالنصر ولم تر العرق يتفصد من بين ثناياه كما هو الحال في رياضة المبارزة مثلا.
والحقيقة أنني عشت مع كأس العالم الذي لا أتابع غيره في المحافل الرياضية على أنه حرب، بقيت أشجع المنتخبات الإفريقية إلى أن خرجت مع المنتخب الجزائري، ثم توجهت إلى المنتخبات الأمريكية الجنوبية بدعوى التقاء بعض إيديولوجيات بلدانها معنا، إضافة إلى التقائها معنا في فقرها المدقع، وبعد أن خرجت هذه الفرق جميعها لم أجد أحدا لأشجعه. لعلنا سنلعب الآن في داخل تناقضات أوروبا: إسبانيا….لا يمكن؛ ومحاكم التفتيش وانعدام تسامحهم مع المسلمين …. بعد ثمانمئة عام لا تجد مسلما واحدا من أصل إسباني…. ما هذا الإفراط في العدائية. هولندا تبقى أقرب بالرغم من حيازتها لعدد كبير من الصهاينة.
لا يمكنني أن أعيش كأس العالم دون أن أعيش الحرب…دون أن أعود للواقع.
أرى أن مثل هذه المحافل الرياضية تجذبنا إلى شكل من أشكال تزييف الواقع، وكأن الأمم لم يبق لها أن تتحارب إلا من خلال كرة القدم! والحقيقة أنني أتطلع إلى مثل هذه الحالة المثالية بشوق؛ لكن كيف يكون ذلك في ظل عالم تسعى فيه الدول الغنية إلى نهب الدول الفقيرة؟ كيف يكون في ظل عالم يدعم الكيان الصهيوني الذي زرع في قلوبنا؟؟؟؟   

الرؤية الثورية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

عرض مؤخرا في شهر رمضان على شاشة أل MBC الفضائية مسلسل «التغريبة الفلسطينية» من تأليف وسيناريو وحوار الدكتور وليد سيف، و إخراج حاتم علي، وقد جاء هذا المسلسل استدراكا لمسلسل «الدرب الطويل» للدكتور وليد سيف أيضا، والذي عرض على شاشة التلفزيون الأردني كما عرض على شاشات عدد من الفضائيات قبل سنوات.
وعلى الرغم من التشابه الذي جاء بين المسلسلين سواء كان ذلك من ناحية الشخصيات أو من ناحية المَشاهِد، إذ يمكن للمشاهد المتابع لكليهما أن يستدعي من خلال مشهد في أحدهما مشهدا في المسلسل الآخر، إلا أن الرؤية الفكرية في أحدهما مختلفة عن الآخر، ولعلها جاءت في «التغريبة الفلسطينية» متطورة عنها في «الدرب الطويل».
تناول د. سيف حياة الريف الفلسطيني منذ ما قبل ثورة عام 1936محاولا إظهار الصراعات الطبقية والسلطوية في هذا الريف، فقد قامت هذه الحياة على ثنائية طبقية تُسحق فيها أي محاولة ثورية فردية،  بحيث لم تتسع لمحاولة أحمد الشيخ يونس الذي حاول أن يقف في وجه الإقطاعي أبوعزمي عندما غير حدود أرضه وسرق جزءا من أرض أسرة أحمد، وعندما استأثر لنفسه بالأرض المشاع.
لقد جاءت شخصية أحمد الشيخ يونس منسجمة عبر القصة كلها، فهو الراغب بتغيير الوضع الاجتماعي لأسرته، وهو الثائر على المستعمر، ولا شك في أن هذه الشخصية الثورية الشجاعة التي توقفت في وجه الظلم الاجتماعي فكانت عنصرا مهمّا في الصراع الطبقي، ستكون أول الواقفين في وجه الظلم الاستعماري، وإن كان ظاهر الثورة يوحي بتجمع الطبقات الاجتماعية المختلفة في وجه الاستعمار فإن د. وليد سيف يكشف عن حقيقة هذا التجمع، ففيما كانت طبقة الفلاحين الفقراء ممثلة بشخصية أحمد الشيخ يونس تسعى لمواجهة القوى الاستعمارية كانت الطبقة المتنفذة تشارك في الثورة لزيادة تنفذها وسيطرتها، وهذا ما دعا أبا عزمي إلى المشاركة بالثورة بعدما أحس بقوتها، وبعد أن شكلت حيزا يمكن من خلاله إفراز قادة للمراحل القادمة، ولهذا انقطع ابوعزمي عن العمل الثوري بمجرد إحساسه بضعف الثورة ليبدأ بالتعامل مع الانجليز، وهذا ما دعا ابن أخيه لقتله أثناء حفل زفافه، وعلى الرغم من عدم إقناع هذا الحدث بحيث لم تتم متابعة هذه الشخصية في تناميها للقيام بمثل هذا الفعل، إلا انه شكل بعدا رمزيا ربما كانت القصة غنية عنه.
لقد بين سيف أثر الثورة في تغيير الموازين الاجتماعية بحيث صار أحمد الشيخ يونس ابن أكثر الأسر فقرا في قريته، وابن الأسرة المقطوعة عن عشيرتها صاحب النفوذ الأكبر على قريته والقرى المجاورة بحكم قيادته لفصيل في الثورة، وعندما انتهت الثورة بحلول الحرب العالمية الثانية وانقطاع إمداد السلاح من سوريا لم يقبل أحمد بالعودة إلى قريته بعد انتهاء مصدر السلطة التي كان يتمتع بها. ولم تعد له أي سلطة بعد إصابته في نكبة فلسطين إذ صار يبحث عن أي عمل ليسد حاجته بعد أن سكن في المخيم، ولا شك في أن المؤلف يقصد من هذه الحال التي آل إليها احمد الشيخ يونس الإشارة إلى الحال التي آلت إليها الثورة بكل ما فيها من مواجهة.
لقد عنى انتهاء الثورة وعدم تقدير رجالها استجداءهم العمل في بيوت الموسرين، كما عنى تزويج خضرة التي أنجبت ابنها رشدي في زمن الثورة لأكثر الناس تجردا من القيم والتقاليد القروية بعد موت زوجها في الثورة، ولعل ما مثل ذروة الانكسار لهذه الثورة تنازل الصهاينة عن محاكمة احمد الشيخ يونس بعد النكسة، بل كان اقتياده لمجرد التعرف إليه وتذكيره بنتائج المعركة فقط. ولا شك في أن هذا لا يعني انقطاع المواجهة بعد النكسة فهي لم تعد مقتصرة على حمل السلاح بل امتد مفهوم المواجهة ليشمل الإقامة في أرض فلسطين، وعدم القبول بالتهجير كما جاء على لسان ابن الثورة أحمد الشيخ يونس، ومن المؤكد أن هذه الإقامة لا تغني عن الكفاح المسلح، فقد حمل رشدي البندقية التي ورثها عن الشهيدين أبيه وعمه في المشهد الأخير من المسلسل.
ولعل اضطلاع شخصية الدكتور علي المثقفة بدور الراوي مما قصده الدكتور وليد سيف لما في هذا الراوي من قدرة على سبر أعماق التغيرات الاجتماعية والثقافية، فقد كانت هذه الشخصية على درجة كبيرة من الوعي لمجريات الأحداث، وللتغيرات الثقافية ومن هنا قامت هذه الشخصية بالدور التحليلي لمثقفي المخيم، بل ومثقفي العالم الثالث كله الذين يتحدثون عن الوجوديين وعن أثر الآلة على الإنسانية، فيما يعيشون واقعا مختلفا لا يتضمن معطيات العالم الغربي الذي أفرز الثقافة الغربية، حتى إن هذه الشخصية لم تتردد في انتقاد الذات لحديثها عن ثقافة بعيدة عن الواقع.
وقد جاءت شخصيتا صلاح ورشدي باعتبارهما ممثلتين لنموذجين مختلفين وإن كان من الممكن لهما إن تلتقيا في النهاية، فثقافة صلاح بعيدة عن الواقع مشغولة بمصطلحات لا تمت لبيئته بصلة، ومن هنا جاءت علاقته الفاشلة بمحبوبته في فترة المراهقة عندما اعتقد أنها نموذج للإخلاص، فهي شخصية تصدق كل شيء، ولا يمكن لها أن تعيش الواقع وتعيه إلا بعد أن تصطدم به أكثر من مرة، ولا شك في أن معطيات هذا الواقع تقتضي الخيار الثوري، وهذا ما مثله رشدي الذي أعلن الكفاح المسلح ضد المحتل منطلقا في ذلك من ثقافته المحلية ممثلا بذلك الخط الثوري الذي يمكن من خلاله تحقيق النتائج الفضلى.
لقد أوصل الدكتور وليد سيف من خلال نتاجه هذا «التغريبة الفلسطينية» الواقع دون تزييف موثقا إياه بصراعاته الطبقية والحضارية والثقافية، وقد ساعد المخرج حاتم علي على إظهار هذا العمل بشكله المحكم.

القرش اللامع

ربما سقط من أحدهم، أو أن أحدهم رماه . على أية حال  ، فهو أجمل قرش رآه في حياته ؛ فلم يدّخر جهداً في الركض إلى اقرب دكان: أعطني بالون .
- أحلى بالون .

النفخة الأولى
ما هو إلا بالون ؛ بالون طفل … وأنا أكبر من طفل ، هذا ما قاله لي أبي عندما تسلّقت شجرة النخيل ، وكدت أن ألتقط نجمة .

النفخة الثانية
أريده منطاداً . سألتقط أول نجمة أجدها وأرميها لأبي ؛ سيعرف أنها مني ، وسيشتري بالنجمة بالوناً ويأتي عندي ، وسنرمي نجوماً لأمي وأخي وأختي وصديقي عمر .

النفخة الثالثة
سأعلق القمر على الزمن الماضي ؛ ولن أجعلهم يسكبوا الأفكار فيه كما يفعلون . سأجمع كل النجوم في كيس أسود ولن يهتدوا بها إلى أن يجدوا قرشاً كما قرشي . ولن يجدوا فقد كان قرشاً لامعاً لمعان الذهب .

النفخة الرابعة
 بم  … انفجر البالون