ماذا أسميه؟ إشكالية عارضة، أما الإشكالية الحقيقية ففي تكوينه وميكانيزماته. اسمه مصلح، والطلبة يعرفونه بالبحر، أما بين أهل قريته فاسمه المخ. استوحوا ألقابه من علمه الغزير، وفيض عقله الوفير. جمع العلوم من شتى الأصناف والبقاع والأزمان، فمن بلاغة الجاحظ إلى أدب ابن العميد إلى نحو سيبويه حتى ثنائيات سوسير وتحويلية تشومسكي مرورا بالنقد النسوي وسرديات جنيت... والحقيقة أن معرفته لم تبق أسيرة الكتب، فقد تعمقت ثقافته بتطوافه في بلاد العرب والعالم، فمن مؤتمر في القاهرة إلى آخر في تونس حتى نيويورك ونيودلهي. لقد طاف البلاد متسلحًا بثقافة الأجداد مستهديا بنور علمهم الوقاد.
اختلفت آراء الطلبة في مدى وسامة البروفسور مصلح، فقد اعتقدت إحدى الطالبات أن لقب البحر جاء نتيجة ضخامة كرشه، غير أن صديقتها ردتها إلى أصول هذا اللقب، وحاولت أن تبين لها مدى وسامة الدكتور مصلح، فنظارته التي غطت عدستاهما جزءًا من وجنتيه تناسبت مع وجهه الواسع، كما أن بذلاته التي يختارها غطت تكرشه، بل إن الفتاة حاولت أن تثبت جماليات التكوين الجسماني للإنسان العربي من خلال شكل الدكتور مصلح، فوجهه الحنطي يعكس جمال بيادر القمح في بلادنا، وعيناه العسليتان تمثلان العينين النموذجيتين للإنسان العربي، أما الندوب التي ظهرت على يديه فتعكس معركة العربي من أجل التحرر والخلاص من الإمبريالية. قالت: إن علمه واسع بسعة البحر؛ ولهذا أطلقت عليه هذه التسمية. إنه العالم البحر.
اتخذ الدكتور مصلح مكانه أمام طلبته في أول محاضرة له هذا الفصل، كانت عيون الطلبة مشدودة إليه، وكانت قلوبهم تخفق إذا ما لاقت عيونهم عينيه. رحب الدكتور مصلح بطلبته وقدم لمادته: سنغرف في هذا الفصل من بحر العلم، وسوف نجوب في عالمه بقدر ما تتيح لنا فسحة الزمن... أنت يا سمير. درستك قبل هذه المرة.
ـ نعم دكتور.
واستكمل الدكتور مصلح حديثه متأملا ملامح الطلبة حينا ومتفكرا في تراكيب جمله حينا آخر، لكن عينيه وقعتا على طالب جديد.
أثار خالد في نفس الدكتور مصلح ملامح تراثية غير موغلة في القدم، فقد خف شعره الأبيض في صدغيه وقفا رأسه فاضحًا صلعته الحنطية اللامعة لافتا الرائي إلى بروز وجهه. التقت عينا الدكتور مصلح بعيني خالد فابتسم خالد بشفتيه العريضتين البارزتين مذكرا المدرس بطرابيش العثمانيين، فنادى عليه: أنت... العصر التركي، ألم تستوعب طريقة الكلام للآن... ما زلت تحاول أن تبرمج نفسك على استيعاب العربية الفصيحة؟
تفصد العرق من جبين خالد، ولم يجب. تذكر كيف امتنع عن الدراسة من أجل استكمال دراسة إخوته فيما تأخر هو ليدرس في المرحلة التي يدرس فيها أبناؤه، حضر محاضرتين بعد ذلك وقد التصق به اسم العصر التركي خلالهما، لكنه غاب عن الجامعة كلها بعد ذلك إذ اكتشف أنه يضع أمواله في المكان الخطأ: لعل أبنائي أحق بها.
كان الدكتور مصلح صاحب منهج في إلقاء محاضراته، فهو يرى أن العلم ليس في الكتب حسب، بل يتمكن من خلال التجربة المعيشة، وهذا ما جعله يسرد قصصه الشائقة عن أسفاره وبعض المواقف التي مر بها. وعندما سرد حكاية مرت به حين كان مساعد العميد دارت في ذهنه فكرة: ألم يحن لي أن أكون وزيرًا بعد أن تسلمت كثيرًا من المناصب في هذه الجامعة وفي غيرها؟ لعل المدخل الأفضل من أجل ذلك المقالات الصحفية. عمود ثابت في جريدة "الباب".
تابع الدكتور مصلح نشر المقالات يوميًّا في الصحف، وكانت فلسفته تتلخص في ثقافة السلام: لقد آذانا الغرب كثيرًا بالاستعمار، وآذانا الكيان الصهيوني كثيرًا. نزفت دماء كثيرة. ألم يحن الوقت لوقف هذا النزيف؟ إنّ وقف النزيف يقتضي قدرًا من التحمل ومقاومة حركات المقاومة.
حاوره أحد مريديه من الطلبة: أنا أتابع مقالاتك باستمرار، ألا ترى أن مقاومة حركات المقاومة موقف يشوبه قدر من التطرف؟
تشنج الدكتور مصلح برهة، لكنه سرعان ما استعاد مظهره الطبيعي: وهل يقابل التطرف إلا بتشدد يقصم تطاوله ويضع حدًّا لعنفوانه؟
لقد أدرك طلبة الدكتور مصلح مدى نرجسيته واعتداده الكبير بذاته ومحافظته على اتزانه في الأغلب، ومن ناحية أخرى لم يكن مصلح يرى في طلبته قدرات جيله، ما جعل الاستخفاف يغلب على أسلوب تعامله، قال: يخسر من لا يتوصل إلى النتائج التي توصلت إليها في البحث، والخسارة لن تكون في العلامة، بل ستكون في مستقبلك العلمي، أذكر أن الروائي "خالد عاصم" عرض عليّ روايته "المتحابون" قبل أن ينشرها، وقد اقترحت عليه إجراء تعديلات في حبكتها لكنه لم يستجب. ها هو انطفأ ذكره بعد أن جاد فكره بروايات سابقة كان قد استجاب فيها لنصائحي. لم يعد له مكانة بين أدباء عصره.
لم يوقف استرسال الدكتور مصلح إلا طرق طارق على بابه، أشار إليه مستأذنا بالدخول فأذن له، سأله: أهذا هو الكتاب الذي طلبت مني العودة إليه في بحثي؟ أمسكه الدكتور مصلح واطلع على عنوانه وقال: نعم، هذا هو، إنه كتاب مهم سيثري بحثك.
ـ لكن هذا كتاب في الفيزياء، اقرأ مقدمته، وانظر إلى الحسابات التي فيه.
لم يبد الدكتور مصلح أي استهجان: ألا تعرف أهمية الربط بين العلوم الإنسانية والعلوم البحتة؟! اكتفى الطالب بهذا الاستفزاز وطلب منه أن يوقع ورقة تتوقف عليها إجراءات البحث الرسمية. وبينما هو يخرج الورقة من حقيبته وقع الكتاب لصق قدم الدكتور مصلح. لم يحاول أن يحمل الكتاب ويعطيه للطالب، ولم يحرك كرسيه للابتعاد عن مكان سقوطه. نظر إلى الطالب وهو يحدودب لتناول الكتاب من عند قدميه. كانت ابتسامة خفية ترتسم على شفتيه، فيما خطر في ذهنه قول الإمام مالك: العلم يؤتى ولا يأتي.
كان الدكتور مصلح قبلة الزائرين ومحط أنظار الباحثين، يأتيه طلبة العلم طامحين إلى علمه المثمر ورياض فكره المزهر، لكنه لم يتصور يومًا أن يأتيه علماء من قارات أخرى طامعين بعلمه؛ استأذنت إحدى موظفات الجامعة بالدخول إلى قاعة الدراسة وكان برفقتها رجل تبدو عليه الملامح الأجنبية: هذا الدكتور سليموفاليموفيتش مدرس في قسم الدراسات الشرقية في جامعة موسكو. رغب في حضور محاضرتك للإفادة منك.
ـ أهلا بكم، تفضلوا.
لم يبد الدكتور مصلح أي مبالغة في الترحيب، فقد كان كعادته رابط الجأش هادئا لا تهزه نوائب الدهر ولا تفرحه الأحداث الجليلة، لكنه أبدى اهتماما أكبر بالاستحواذ على الكلام، فتكلم بلغة كأنها سيل دافق، وحين أحس بأنه لا يشرك الطلبة في الحديث تذكر خالدًا: أين هو...؟ حاول أن يتذكر اسمه لكنه لم يستطع: أين هو العصر التركي؟ أجابه أحد الطلبة: لقد انقطع عن الدراسة.
ـ آه...
ألقى سؤالا على الطلبة حاول من خلاله أن يسبر آراءهم فيما يقول، ثم عاد لاستكمال موضوعه دون أن يتيح لهم فرصة الإجابة. استأذن الدكتور الروسي للخروج، وحاول الدكتور مصلح أن يجامله أثناء ذلك: نحن نقدر لكم اهتمامكم بلغتنا.
عاد الدكتور مصلح إلى المحاضرة وقد خفت حماسه بعد خروج الزائر الروسي؛ بطؤ كلامه وتهاوت كلماته أمام طلبته ثم طلب منهم المغادرة قبل انتهاء وقت المحاضرة، وحين راجع نفسه من أجل إيجاد تفسير لهذا التهاوي لم يستطع التوصل إلى نتيجة.
وضع الدكتور مصلح صورة للبحر خلف مكتبه، ورأى نفسه مبحرا في أرجائه الواسعة: ما أنا إلا مبحر على سطحه الواسع، أحاول أن أغوص في أعماقه السحيقة. وفي ليلة استيقظ من النوم فزعًا، فسألته زوجته عن حلمه، فقال إنه رأى نفسه يغرق بعد محاولات عديدة للعوم في بحر ليس له قرار. فكر في حلمه محاولا تحليله: هذه الصورة هي السبب. فأزالها عن الجدار: هل يعوم البحر في البحر؟ لا حاجة للبحر عندي، فأنا البحر الذي لا يظمأ.
كانون الأول/2010