الاثنين، 16 أبريل 2012

الرؤية الثورية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

عرض مؤخرا في شهر رمضان على شاشة أل MBC الفضائية مسلسل «التغريبة الفلسطينية» من تأليف وسيناريو وحوار الدكتور وليد سيف، و إخراج حاتم علي، وقد جاء هذا المسلسل استدراكا لمسلسل «الدرب الطويل» للدكتور وليد سيف أيضا، والذي عرض على شاشة التلفزيون الأردني كما عرض على شاشات عدد من الفضائيات قبل سنوات.
وعلى الرغم من التشابه الذي جاء بين المسلسلين سواء كان ذلك من ناحية الشخصيات أو من ناحية المَشاهِد، إذ يمكن للمشاهد المتابع لكليهما أن يستدعي من خلال مشهد في أحدهما مشهدا في المسلسل الآخر، إلا أن الرؤية الفكرية في أحدهما مختلفة عن الآخر، ولعلها جاءت في «التغريبة الفلسطينية» متطورة عنها في «الدرب الطويل».
تناول د. سيف حياة الريف الفلسطيني منذ ما قبل ثورة عام 1936محاولا إظهار الصراعات الطبقية والسلطوية في هذا الريف، فقد قامت هذه الحياة على ثنائية طبقية تُسحق فيها أي محاولة ثورية فردية،  بحيث لم تتسع لمحاولة أحمد الشيخ يونس الذي حاول أن يقف في وجه الإقطاعي أبوعزمي عندما غير حدود أرضه وسرق جزءا من أرض أسرة أحمد، وعندما استأثر لنفسه بالأرض المشاع.
لقد جاءت شخصية أحمد الشيخ يونس منسجمة عبر القصة كلها، فهو الراغب بتغيير الوضع الاجتماعي لأسرته، وهو الثائر على المستعمر، ولا شك في أن هذه الشخصية الثورية الشجاعة التي توقفت في وجه الظلم الاجتماعي فكانت عنصرا مهمّا في الصراع الطبقي، ستكون أول الواقفين في وجه الظلم الاستعماري، وإن كان ظاهر الثورة يوحي بتجمع الطبقات الاجتماعية المختلفة في وجه الاستعمار فإن د. وليد سيف يكشف عن حقيقة هذا التجمع، ففيما كانت طبقة الفلاحين الفقراء ممثلة بشخصية أحمد الشيخ يونس تسعى لمواجهة القوى الاستعمارية كانت الطبقة المتنفذة تشارك في الثورة لزيادة تنفذها وسيطرتها، وهذا ما دعا أبا عزمي إلى المشاركة بالثورة بعدما أحس بقوتها، وبعد أن شكلت حيزا يمكن من خلاله إفراز قادة للمراحل القادمة، ولهذا انقطع ابوعزمي عن العمل الثوري بمجرد إحساسه بضعف الثورة ليبدأ بالتعامل مع الانجليز، وهذا ما دعا ابن أخيه لقتله أثناء حفل زفافه، وعلى الرغم من عدم إقناع هذا الحدث بحيث لم تتم متابعة هذه الشخصية في تناميها للقيام بمثل هذا الفعل، إلا انه شكل بعدا رمزيا ربما كانت القصة غنية عنه.
لقد بين سيف أثر الثورة في تغيير الموازين الاجتماعية بحيث صار أحمد الشيخ يونس ابن أكثر الأسر فقرا في قريته، وابن الأسرة المقطوعة عن عشيرتها صاحب النفوذ الأكبر على قريته والقرى المجاورة بحكم قيادته لفصيل في الثورة، وعندما انتهت الثورة بحلول الحرب العالمية الثانية وانقطاع إمداد السلاح من سوريا لم يقبل أحمد بالعودة إلى قريته بعد انتهاء مصدر السلطة التي كان يتمتع بها. ولم تعد له أي سلطة بعد إصابته في نكبة فلسطين إذ صار يبحث عن أي عمل ليسد حاجته بعد أن سكن في المخيم، ولا شك في أن المؤلف يقصد من هذه الحال التي آل إليها احمد الشيخ يونس الإشارة إلى الحال التي آلت إليها الثورة بكل ما فيها من مواجهة.
لقد عنى انتهاء الثورة وعدم تقدير رجالها استجداءهم العمل في بيوت الموسرين، كما عنى تزويج خضرة التي أنجبت ابنها رشدي في زمن الثورة لأكثر الناس تجردا من القيم والتقاليد القروية بعد موت زوجها في الثورة، ولعل ما مثل ذروة الانكسار لهذه الثورة تنازل الصهاينة عن محاكمة احمد الشيخ يونس بعد النكسة، بل كان اقتياده لمجرد التعرف إليه وتذكيره بنتائج المعركة فقط. ولا شك في أن هذا لا يعني انقطاع المواجهة بعد النكسة فهي لم تعد مقتصرة على حمل السلاح بل امتد مفهوم المواجهة ليشمل الإقامة في أرض فلسطين، وعدم القبول بالتهجير كما جاء على لسان ابن الثورة أحمد الشيخ يونس، ومن المؤكد أن هذه الإقامة لا تغني عن الكفاح المسلح، فقد حمل رشدي البندقية التي ورثها عن الشهيدين أبيه وعمه في المشهد الأخير من المسلسل.
ولعل اضطلاع شخصية الدكتور علي المثقفة بدور الراوي مما قصده الدكتور وليد سيف لما في هذا الراوي من قدرة على سبر أعماق التغيرات الاجتماعية والثقافية، فقد كانت هذه الشخصية على درجة كبيرة من الوعي لمجريات الأحداث، وللتغيرات الثقافية ومن هنا قامت هذه الشخصية بالدور التحليلي لمثقفي المخيم، بل ومثقفي العالم الثالث كله الذين يتحدثون عن الوجوديين وعن أثر الآلة على الإنسانية، فيما يعيشون واقعا مختلفا لا يتضمن معطيات العالم الغربي الذي أفرز الثقافة الغربية، حتى إن هذه الشخصية لم تتردد في انتقاد الذات لحديثها عن ثقافة بعيدة عن الواقع.
وقد جاءت شخصيتا صلاح ورشدي باعتبارهما ممثلتين لنموذجين مختلفين وإن كان من الممكن لهما إن تلتقيا في النهاية، فثقافة صلاح بعيدة عن الواقع مشغولة بمصطلحات لا تمت لبيئته بصلة، ومن هنا جاءت علاقته الفاشلة بمحبوبته في فترة المراهقة عندما اعتقد أنها نموذج للإخلاص، فهي شخصية تصدق كل شيء، ولا يمكن لها أن تعيش الواقع وتعيه إلا بعد أن تصطدم به أكثر من مرة، ولا شك في أن معطيات هذا الواقع تقتضي الخيار الثوري، وهذا ما مثله رشدي الذي أعلن الكفاح المسلح ضد المحتل منطلقا في ذلك من ثقافته المحلية ممثلا بذلك الخط الثوري الذي يمكن من خلاله تحقيق النتائج الفضلى.
لقد أوصل الدكتور وليد سيف من خلال نتاجه هذا «التغريبة الفلسطينية» الواقع دون تزييف موثقا إياه بصراعاته الطبقية والحضارية والثقافية، وقد ساعد المخرج حاتم علي على إظهار هذا العمل بشكله المحكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق