الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

الفلامنكو والسّامر والدحّية


د. شفيق طه النوباني
كثيرا ما أشار دارسو الفلكلور إلى تأثر رقصة الفلامنكو الإسبانية بالتراث العربي في الأندلس، وقد نالت هذه الرقصة اهتماما أكبر في الثقافة العربية، لا أقول بسبب تأثرها بالفلكلور الأندلسي، وإنما بسبب قربها من الطابع الشرقي للرقص، والحقيقة أنني بقيت متشوقا لمشاهدة هذه الرقصة عن قرب إلى أن حانت الفرصة لذلك من خلال مهرجان جرش للثقافة والفنون في المسرح الشمالي هذا العام.
بعد أن مضى المؤدون في عرضهم حضرت إلى ذهني دبكة "الدحية" البدوية، وقد آزر فكرتي أحد المشاهدين إذ علا صوته: "بدو أمريكا" في اعتقاد منه بأن الرقصة أمريكية، والحقيقة أن هذه المشابهة التي لاحظها كلانا؛ أنا والمشاهد الذي عبّر عن رأيه فورا بصوت مرتفع لم تنبع من فراغ.
تقوم دبكة السامر البدوية على تحلّق عدد من الرجال تتوسطهم امرأة تدعى "الحاشي" تقوم بحركات رشيقة تسمى "المحوشاة" حيث تؤديها الحاشي ببراعة وكبرياء على إيقاع تصفيق أيدي الرجال وغنائهم خلف الشاعر "القاصود" (انظر: محمد غوانمة، المجلة الأردنية للفنون، أغاني النساء في الأردن، ص4)
وإذا كانت دبكة السامر تقوم على وجود فعلي للمرأة فإن دبكة "الدحية" تقوم على وجود افتراضي للمرأة في وسط حلقة الرجال بحسب تأويل دارسي الفلكلور، وإذا ما تجاوزنا طبيعة اللباس وتفاصيل الحركات في رقصة الفلامنكو فإننا سنجد أن وجه الشبه بينها وبين الدبكة البدوية كبير جدا، ففي رقصة الفلامنكو تبرز حركات النساء اللواتي يتحلق الرجال حولهن جالسين أو واقفين ليظهروا تشجيعهم لهن من خلال التصفيق ليشكلوا بذلك لوحة حركية وإيقاعية قوامها السرعة والقوّة.
عنصرا السرعة والقوّة هذان هما أساس الفعل الحركي في رقصة الفلامنكو، وإن كانت دبكة السامر تقوم على حركة أبطأ إذ تعتمد المطلع المشهور: هلا وهلا بك يا هلا        لا يا حليفي يا ولد. فإنها لا تستغني عن القوّة إذ ترقص المرأة حاملة السيف، كما أنها تتميز بقوّة الشخصية، ولعلها تكون من علية القوم، وفي شخصية آمنة في رواية "سلطانة" لغالب هلسا ما يشير إلى مكانة المرأة التي يمكن لها أن تقوم بمثل هذا الدور في المجتمع البدوي.
وعلى الرغم من هذا التشابه بين الدبكة البدوية والرقصة الإسبانية إلا أن من الممكن التوصل إلى تباينات عميقة نابعة من البنية الاجتماعية والعمق الثقافي لكلا المجتمعين، فالمرأة في الرقصة الإسبانية تمثل مركز الرقصة سواء أكان ذلك من ناحية التشكيل الحركي إذ ترقص المرأة في مركز الحلقة، أو من ناحية التشكيل الإيقاعي إذ يبدو الإيقاع الصادر من حركة أقدام المرأة مركزيا جاذبا لحلقة الرجال والجمهور في الوقت ذاته. أما في الدبكة البدوية فإن المركز في الحلقة إذ تبدو هذه الحلقة الذكورية بطبيعة الحال هي الجاذبة للنظارة من ناحية الحركة والغناء والإيقاع، فالغناء يصدر من الرجال المتحلقين في دبكة السامر، كما أن الإيقاع يتحقق من خلالهم في "الدحية"، ومن الطبيعي بعد هذه المقارنة أن تسمى الدحية بالدبكة وهو فن ذكوري، وأن يسمى الفلامنكو بالرقصة وهو الفن الذي يقترن بالإناث عادة.
 والحقيقة أن هذه المركزية الذكورية تبقى مظهرا برّانيّا، فلا يحتاج المتبصّر إلى عميق اجتهاد للتوصل إلى حقيقة تمركز المرأة موضوعيّا من منطلق شكل الدبكة الحلقي حول المركز سواء أتمثل هذا المركز بالمرأة في وجودها المادي في "السامر" أو وجودها الافتراضي في "الدحية". ولو أننا ابتعدنا في هذا التأويل إلى دور المرأة الاجتماعي لوجدنا أن دور المرأة في أي مجتمع دور مركزي سواء أكان هذا الدور واضحا للعيان مكشوفا قياسا على الفلامنكو، أو كان دورا مضمرا قياسا على "الدحية".

لا شك في أن إحالة الفلامنكو إلى الدحية أو السامر فيها الكثير من المجازفة والتأويل الذي لن يقودنا إلا إلى محاولات سبر تاريخية ليس بالضرورة أن تخرج بنتيجة مؤكدة، غير أن اتفاق الجوهر الإنساني في كل الثقافات أمر لن يساوره الشك، وإن كانت الدراسات البنيوية قد توجهت في مساحات واسعة منها إلى دراسة الحكايات الشعبية لتتوصل في نتيجة من أهم نتائجها إلى وحدة العقل البشري، فإن توجهها إلى دراسة حركات الجسد والإيقاع في الفنون الحركية لن تخرج بها عن هذه النتيجة.