الجمعة، 6 سبتمبر 2013

العربون


البرود الذي ما كان له أن يرتقي إلى حال من السخونة، أو أن يتدانى إلى مستوى التجمد حال ترقد في زيدون منذ مدّة. وهو على أية حال لا يستطيع تحديد هذه المدّة … سنة … أو يوم … أو شهر … فالأمر سواء.
بلورات الجليد منتشرة عبر الشارع بلا وجهة أو شكل مستقر، والحافلة تسير عجوزًا سقطت من شعره آخر شيبة، طريق متعرج تحفة أشجار السرو المتجمدة.
سنة ليست كباقي السنين. غزاها الثلج من بداية أيلول، وتكوّم جليدًا إلى كانون. متى ستنفكّ محنة الجليد؟ سؤال تداولته ألسن كثيرة. وقد توقفت البلاد عن الحركة في البداية، لكن الحاكم قال بأن لا استسلام للطبيعة الحائرة.
أسماع الركاب تصغي للبرودة والهدوء؛ نظراتهم تنبعث بحثًا عن نهاية لهذا الركود الرتيب؛ أشجار على جانبي الشارع المتعرج، بقع من الجليد، ثم لا شيء؛ وكأنهم يريدون كسر هذا الفراغ الشاسع من حولهم بأي  كون .
تتناقل عينا جامع الأجرة بين السائق والركاب والشجيرات والفراغ المتراكم. حان وقت جمع الأجرة. تقدّم من راكب، وضع في يده عددًا من القطع النقدية كاسرًا إزعاج الصمت برنينها الخافت. وصل إلى زيدون. وضع قطعة واحدة في يد جامع الأجرة.
- ما هذا ؟
التفت إليه الركاب بسرعة وهمهموا كأنهم خلية نحل في نهار شتوي.
- عربون ... إلى أن توصلني إلى غايتي … فأعطيك ما تبقى .
- لكن …
- وكيف ستأمن لي وصولي ؟
صمت الاثنان بينما اعتدل الركاب؛ كل عين في شبّاكها. أكمل جمع الأجرة وتراجع إلى جانب الباب. لغة العيون في تحديها المتهافت تعمل عملها، لكن زيدونًا أسلم عينيه للشجيرات التي بدأت يالتصاغر.

تباطأت الحافلة أكثر. نظر الجمع إلى السـائق. شيء ما على جانب الشارع. نظروا جميعًا إلى امرأة عارية تشير إلى الحافلة بالتوقف، نزلوا قاطرة، ثم كانوا دائرة، حملوا المرأة … شكل جليدي آل إلى امرأة … أو امرأة آلت إلى شكل جليدي، ألقوها على أحد المقاعد
الفارغة، جلس كل واحد في مكانه  بينما عادت الحافلة إلى حالة المشي العجائزي. تناقلت نظرات الركاب بين الشكل الجليدي والفراغ، لكنهم ما فتئوا أن أسلموا أعينهم للفراغ من جديد .

توقفت الحافلة بلا توطئة. أشـار جامع الأجرة وكأنما يقول: هنا آخر موقف. تناقلت أعين الركاب بين زيدون وقطعة الجليد النسوية، حفر زيدون جيبه ... قطعتان نقديتان … أعطاهما لجامع الأجرة بينما حمل الركاب قطعة الجليد ونزلوا من الحافلة، حاول السائق عبثًا تشغيل الحافلة . مشى الجمع حاملاً قطعة الجليد  بينما تدانى زيدون إلى مستوى التجمد.

16 / أيلول / 1999م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق